في 25 تشرين الأول 2016 قامت وزارة الدفاع الروسية بتنظيم مؤتمر صحفي ادعت فيه أنها لم تقصف مستشفى الصاخور في حلب الذي تم تدميره من قبل الطيران الروسي في مطلع شهر تشرين الأول 2016، وقدمت خلال المؤتمر ما قالت إنها صور الأقمار الصناعية لمنطقة المستشفى، بتاريخي 24 أيلول و11 تشرين الأول، وتظهر عدم تعرضه لأي هجوم بحسب الوزارة التي ادعت أن كل ما أثير، وقتها، عن استهداف روسي للمشفى محض افتراء، وكانت موسكو هنا تحاول الرد على تقارير إعلامية عديدة عن مسؤوليتها في تدمير المشافي في حلب ومن ضمنها مشفى الصاخور.
لم يكد المؤتمر الصحفي ينتهي حتى قام البريطاني "إليوت هيغينز" بنشر تقرير في موقع "بيلينغ كات" يفند فيه مزاعم الدفاع الروسية ويقدم عشرات الأدلة على استهداف المشفى من قبل الطيران الروسي عبر الاعتماد على ما أصبح يعرف بـ" تحقيقات المصادر المفتوحة"، وهذا التكذيب المباشر للادعاءات الروسية لم يكن الأول في إطار حروب بوتين على سوريا وأوكرانيا، واللافت أن كشف الحقائق يتم عبر أدلة يقدم جزء منها الروس أنفسهم عبر إعلامهم، حيث اضطروا مراراً لحذف مقاطع من عدة تقارير تلفزيونية بعد نشرها لأنها تحتوي على أدلة تدينهم.
في عام 2012 وبينما كان العالم يتابع ما يجري في سوريا عبر الصور والفيديوهات التي يرفعها الناشطون السوريون، كان الشاب الثلاثيني "إليوت هيغينز" في بيته بمدينة "ليستر" البريطانية، يتابع ذات الفيديوهات والصور، ولكن بعين المحلل والمنقب عن التفاصيل.
وتحت اسم "براون موسيز" بدأ هيغنز بنشر تقارير تحليلية في مدونته، التي ستصبح من أشهر المدونات التي تعنى بالشأن السوري بالإضافة لكونها ستتحول لمصدر رئيسي للكثير من وسائل الإعلام سواء تمت الإشارة إليه أم لا، وكانت بداية ظهور اسم هيغينز أو موسيز مع سلسلة من التقارير نشرها في صيف 2012 عن استخدام نظام الأسد للقنابل العنقودية، المحرمة دولياً، في قصفه المدن والقرى السورية، وأرفق تقاريره تلك بالكثير من الصور والفيديوهات لتلك القنابل والصواريخ، ولاحقاً أصدر تقارير عن البراميل المتفجرة، وقدم سلسلة من التقارير المبكرة التي برهنت قيام الأسد عن سبق إصرار وتصميم باستخدام الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية في آب 2013.
تقارير هيغينز استطاعت كسب ثقة الصحفيين والمنظمات الدولية واستخدمت في العديد من التقارير الدولية عن جرائم النظام، ولذلك شنت روسيا حرباً على الرجل وما يمثله من اتجاه جديد متمرد على القيود في العمل الصحفي، فجندت مجموعة من الأشخاص، لا سيما المعروفين بالأسديست، للهجوم على هيغينز وكرست وسائل إعلام روسية ساعات طويلة من البث لشتم الرجل والسخرية من عمله.
وفعلاً حدث ما كانت تخشاه روسيا، فالرجل وفريقه دخلوا في مواجهة كبيرة مع روسيا وإعلامها إبان إسقاط الطائرة الماليزية فوق أوكرانيا، حيث قدموا سلسلة من التحليلات التي تثبت أن ميليشيات روسية في شرق أوكرانيا أسقطت الطائرة وبصاروخ روسي، عدا عن تقديم البراهين على قيام روسيا بقصف المشافي والمؤسسات الصحية في سوريا، لا سيما في حلب.
وأطلق هيغينز مؤسسة "بيلينغ كات" متخصصة في هذا النوع من التحقيقات، وأصبحت حالياً من أهم مصادر الأخبار، وتشتهر بتحقيقاتها الجريئة التي تخترق فيها الممنوع للوصول إلى ما تخفيه الأنظمة الديكتاتورية، حتى أن السفير الروسي لدى لندن، ألكسندر ياكوفينكو، قال، في 12 تشرين الأول 2019، إن موقع "بيلينغ كات" (Bellingcat) الإخباري، يعمل لصالح ما سماها "الدولة العميقة البريطانية"، وذلك بعد نشر الموقع سلسلة تحقيقات حول حادثة تسميم العميل الروسي المزدوج، سيرغي سكريبال، اتهم فيها المخابرات العسكرية الروسية بالمسؤولية عن عملية الاغتيال، وهو ما ثبت فعلاً بتحقيقات الشرطة البريطانية.
التحقيقات الصحفية التي تعتمد المصادر المفتوحة أصبحت اليوم ملجأ العديد من الصحفيين والمحللين لملاحقة أخبار الدول التي تمنعهم الأنظمة فيها من العمل بحرية.
ومرة أخرى ومن خلال مقاطع بثها عناصر روس على مواقع التواصل الاجتماعي، نشرت صحيفة روسية تحقيقاً صحفياً عن جرائم تم ارتكابها في سوريا، حيث تم التوصل إلى هوية الفاعلين وأسمائهم والجهة التي يتبعون لها.
فبعد ستة أشهر على نشرها تحقيقها الأول حول جريمة بشعة ارتكبتها ميليشيا "فاغنر" الروسية في سوريا، حيث قامت فاغنر بتعذيب مواطن سوري باستخدام المطارق الثقيلة وصاعق قنبلة يدوية بالإضافة لقطع رأسه وتعليقه، عادت صحيفة "نوفايا غازيتا"، الروسية المعارضة، لنشر تقرير آخر يستكمل تحقيقات الصحيفة حول الجريمة،21 نيسان الجاري، حيث تمكنت من تحديد مكان وقوع الجريمة، وأسماء بعض مرتكبيها، مع نشر وثيقة مهمة تثبت انتماء أحد منفذي الجريمة لميليشيا فاغنر.
تحقيقات الصحيفة لم تعتمد على مصدر من داخل الميليشيا الروسية أو مسؤول روسي ما، دفعه الندم أو هول الجريمة للإفصاح عن مرتكبيها، بل اعتمدت على ما أصبح يعرف بـ" تحقيقات المصادر المفتوحة" ووجدت فيها من المصداقية والموثوقية ما دفع رئاسة تحرير الصحيفة لتبني القصة وتحمل مسؤولية نشرها.
الاعتماد على المصادر المفتوحة، الفيديوهات والصور التي يتم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي وصور الأقمار الصناعية، جاء للتعويض عن نقص المعلومات ومنع الصحافة من العمل بحرية، وبالاعتماد على تحليل الصور والفيديوهات ومقارنتها يتم الكشف في الكثير من الحالات عن القصة الحقيقية وفضح الأكاذيب التي تروجها هذه الأنظمة.
نوفايا غازيتا ليست الصحيفة الأولى التي تعتمد تحقيقات المصادر المفتوحة، فقد سبقتها الكثير من الصحف العالمية الكبرى، واشنطن بوست والجارديان وبيلد ونيويورك تايمز، بالإضافة لوكالات أنباء عالمية، كما أن منظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمات الأمم المتحدة اعتمدت على هذه التحقيقات.
الاعتماد على المصادر المفتوحة في الإعلام يبقى عملاً خطيراً ومتمرداً على قوانين الصحافة التقليدية، حيث أنه يقدم خطاً جديداً ومحددات جديدة للتحقيقات الصحفية، كما أنه يشكل سلاحاً جديداً فعالاً لاختراق جدران الديكتاتوريات والتصدي لحملات البروباغندا، ولكنه من جهة أخرى، وبعكس ما يظهر، هو عمل دقيق يحتاج للكثير من الجهد والعمل الدقيق، والقدرة على كشف الفيديوهات والصور المزيفة، فالفيديوهات تتحول لما يشبه الأدلة الجنائية بيد محققين بارعين يمضون ساعات طوال في متابعة كل تفاصيلها ومقارنتها.
فصواريخ تتباهى إيران بإطلاقها على سوريا مساءً، يظهر في الصباح التالي صور تظهر سقوط معظمها في الأراضي العراقية والإيرانية، وروسيا تنكر استهداف المشافي وتنشر فيديوهات من كاميرا طائراتها للتباهي بآلتها العسكرية، يأتي هيغنز ليبرهن عبر صور "غوغل إيرث" أن الهدف الذي تتباهى موسكو بتدميره ما هو إلا مشفى في إدلب، مما يؤدي بوزارة الدفاع الروسية إلى سحب العديد من الفيديوهات وإصدار أوامر بمنع جنودها من نشر صور أو فيديوهات على مواقع التواصل.