تعتبر نظرية "الدولة كائن حي" إحدى أهم النظريات الاستراتيجية الدولية (الجيوبوليتكس)، صاغها العالم الألماني "فرديريك راتزل" أواخر القرن التاسع عشر في إطار رؤيته للدول العظمى التي تتحرك باستمرار حتى تحقق لنفسها حضوراً وقاعدة مكانية جديدة تراها ضرورية للاستمرار. وعلى الرغم من أن هذه النظرية صيغت لتبرير التوسع المكاني للدول في ذلك العصر، فإن مفهوم التوسع تغير بشكل كبير في العصر الراهن. فالدولة كائن عضوي يكبر وتزداد احتياجاته باستمرار، وتتعرض خلال حياتها كالإنسان العادي لأوقات يسود فيها الرخاء كما تتعرض أيضاً للأزمات، والدولة الناجحة هي التي تستطيع حكومتها إدارة هذه الأزمات بفعالية وتتغلب عليها وتستخلص منها الدروس والعبر بما يخدم مصالحها وتوجهاتها المستقبلية.
أثبتت تركيا للعالم أجمع أنها نجحت في إدارة الأزمة الأخيرة (جائحة كوفيد-19) التي ضربت العالم بأسره وعلى جميع المستويات خاصة في مجال التعليم، وهذا لا يعني أن المؤسسات التعليمية التركية لم تتأثر بهذه الأزمة أسوة بنظيراتها في الدول الأخرى، لكن الأهم في هذا المجال هو الاستفادة من هذه التجربة والإعداد للمستقبل من خلال إعادة بناء نظام للتعليم العالي يتماشى مع التغيير العالمي ويلبي احتياجات الطلاب والأكاديميين، يتمتع بالجودة، ويكون قادراً على المنافسة الدولية.
لقد خضع نظام التعليم لتغييرات لا حصر لها في التاريخ القصير لتركيا الحديثة وكل خطوة جديدة كانت تجلب تحديات جديدة بدورها. في الخمسة عشر عاماً الماضية، تمكنت الحكومة من فرض إصلاح شامل للنظام بنجاح نسبي، خاصة من حيث امتحانات القبول بالجامعات واستخدام التكنولوجيا في التعليم.
في هذا السياق، يمكن التطرق إلى الجهود الكبيرة التي بذلتها الجامعات التركية مؤخراً في توظيف الوسائل التقنية للانتقال إلى التعليم عن بعد خلال فترة نموذجية قصيرة لم تتجاوز أسبوعا واحدا، حيث أكمل نحو 64% من الجامعات التركية (121جامعة) إجراءات الانتقال إلى هذا النوع من التعليم بعد توقف التعليم المباشر في 23 آذار/مارس الماضي بسبب فيروس كورونا، وخلال الأسبوع الثاني وصل عدد الجامعات التي أكملت هذا الانتقال إلى 187 جامعة على امتداد تركيا، وهذا مؤشر مهم على الديناميكية التي تتمتع بها هذه الجامعات وقدرتها على مواكبة الأزمات وتطوير نفسها بشكل ملحوظ. وهذا لا ينفي أن بعض مؤسسات التعليم العالي التركية ما يزال لديها جوانب تحتاج إلى تحسين من حيث البنية التحتية للتدريس عن طريق التعليم عبر الإنترنت ومن خلال المرافق الرقمية والتحضير الأكاديمي. وتجدر الإشارة إلى أن الجامعات التركية تحتضن أعدادا هائلة من الطلاب وصلت بداية السنة الأكاديمية المنصرمة إلى حوالي 7.8 مليون طالب بينهم 180 ألف طالب أجنبي من خارج تركيا، كما وصل عدد الأكاديميين العاملين في هذه المؤسسات نحو 178 ألف أكاديمي بدرجات مختلفة.
ولمواكبة التغيرات التي طرأت على قطاع التعليم العالي خلال الأشهر الماضية والتي يتوقع أن تستمر آثارها حتى منتصف العام الدراسي المقبل، فقد اتخذ مجلس التعليم العالي في تركيا خلال الأسابيع الأخيرة حزمة من القرارات الهامة على صعيد تطوير الجامعات، والطلاب الأتراك والدوليين، بهدف الانتقال إلى التعليم المختلط الذي يجمع بين التعليم التقليدي والتعليم عبر الإنترنت. ويمكن إيراد بعض الإجراءات الجديدة بشكل موجز نظراً لأهميتها لكل من الأكاديميين والطلاب على حد سواء.
- بالنسبة للطلاب الدوليين، ولضمان استمرار الجامعات التركية كمركز جذب لهؤلاء فقد تم تمديد عملية التقديم والتسجيل إلى 15 كانون الأول/ديسمبر 2020، وسيتمكن الطلاب الذين سيتم تسجيلهم في بداية الفصل الدراسي ولكن لم يتمكنوا من القدوم إلى تركيا بسبب التدابير المتخذة في تركيا أو في بلدانهم الأصلية من الانخراط في العملية التعليمية عن طريق التعليم عن بعد من خلال الوسائل الرقمية في فصل الخريف من العام الدراسي 2020-2021 حتى يتم رفع هذه التدابير، أما الطلاب الملتحقين في وقت متأخر فسوف يتمكنون من استئناف دراستهم في فصل الربيع بعد تعليق دراستهم في فصل الخريف، وهذه الإجراءات تشمل مرحلة البكالوريوس والدراسات العليا باستثناء بعض التخصصات السريرية.
- زيادة نسبة الدروس والدورات التي يمكن تقديمها من خلال التعليم عن بعد في البرامج على مستوى درجة الزمالة (المعاهد المتوسطة)، البكالوريوس والماجستير في التعليم الرسمي إلى 40٪. وتجدر الإشارة إلى أن التشريعات الحالية تسمح بتقديم ما يصل إلى 30 ٪ من الدورات الدراسية في الجامعات الحكومية من خلال التعليم عن بعد، إلا أنه لم تكن هناك أي جامعات قد وصلت إلى هذه النسبة قبل جائحة كورونا، وهذا يدل على أنه حتى المؤسسات التركية، التي لديها إرادة قوية لاستخدام المرافق الرقمية، تحتاج أيضاً إلى التوجيه والدعم من قبل مجلس التعليم العالي.
- تشجيع الجامعات وبشدة على تدريس ما لا يقل عن 10٪ من الدروس والدورات التدريبية لكل برنامج من خلال التعليم عن بعد، وستقرر الجامعات ما إذا كانت هذه الدورات عبر الإنترنت سيتم تدريسها على أساس فصل دراسي أو طوال البرنامج. ومع ذلك، يعلق مجلس التعليم العالي أهمية كبيرة على إدراج هذه الدورات بدءاً من فصل الخريف من العام الدراسي 2020-2021.
- سيتم تحديد معايير للتقييم والقياس عبر الإنترنت وسيتم تشجيع الجامعات على إنشاء مراكز امتحانات على الشبكة العنكبوتية.
- تعديل لائحة التعليم العالي في تركيا من خلال إضافة فصل أو فصلين دراسيين كحد أقصى للطلاب في حالات الكوارث والأوبئة، وهذه الفصول لن تحسب من ضمن المدد القانونية لتخرج الطالب سواء في مرحلة الزمالة أو البكالوريوس أو الدراسات العليا.
- إنشاء مواقع وظيفية جديدة في الجامعات الحكومية لاستخدامها في تطوير مراكز التعليم عن بعد. علاوة على ذلك، سيتم توظيف المزيد من الباحثين في الجامعات التي تطبق الإجراءات الجديدة الخاصة باستخدام الوسائل الرقمية بهدف زيادة كفاءات هذه الجامعات فيما يتعلق بالتعليم عن بُعد وتكوين بيئات مناسبة وأماكن للتعليم والتدريب مثل قاعات المحاضرات والفصول الدراسية والمساحات الاجتماعية لخلق بيئات تعليمية أكثر راحة للطلاب في الحرم الجامعي خلال الفصل الأول من العام الدراسي المقبل.
- تقسيم الدورات والدروس المكتظة إلى مجموعات للحفاظ على كفاءة المنصات والبيئات الرقمية قدر الإمكان.
- إنشاء 20 مركزا جديدا للبحوث التطبيقية والتعليم عن بعد في الجامعات التي لم تكن تمتلك مثل هذه الوحدات من قبل، وبذلك لم يعد هناك أي جامعات حكومية متبقية بدون مركز أو وحدة للتعليم عن بعد. وسيتم تحويل هذه المراكز إلى هيكل يدعم الممارسات وإجراء البحوث حول الموضوعات ذات الصلة. كما سيتم تنفيذ برنامج خاص لزيادة كفاءات العاملين في هذه المراكز.
- إنشاء نظام لإعادة تحديد ومراقبة معايير تطبيقات التعليم عن بعد في الفترة المقبلة. وسيتم إنشاء آليات جديدة لتحديد معايير الجودة لفتح البرامج وإجراء الدورات وتقييم الممارسات، وتم إنشاء وحدة جديدة في مجلس التعليم العالي لهذا الغرض، ولن تقتصر طرق التقييم والتقدير على الامتحانات بل سيتم تطبيقها طوال العملية للبرامج والدورات التي تتم دراستها من خلال التعليم عبر الإنترنت.
- إبرام شراكات وتعاون مع مؤسسة الأبحاث العلمية والتكنولوجية التركية (توبيتاك) لتعزيز البنية التحتية للتعليم عن بعد في مؤسسات التعليم العالي في تركيا بالسرعة القصوى.
- السماح للطلاب الراغبين في العودة إلى تركيا بسبب الظروف الصحية في الدول التي كانوا يدرسون فيها بالتحويل والانتقال من برامج جامعات تلك الدول إلى نظيراتها التركية ورفع الحد المسموح به سابقاً بنسبة 50%، باستثناء برامج الطب، وطب الأسنان، والصيدلة، والقانون، والتدريس، والهندسة، والهندسة المعمارية، كما تم منح الطلاب الملتحقين بالجامعات المصنفة ضمن أفضل 1000 جامعة فرصة للانتقال إلى الجامعات التركية في جميع السنوات بما فيها السنة الأولى والأخيرة، وستقتصر هذه الإجراءات على فصل الخريف للعام الدراسي 2020-2021. وكما هو معروف، ووفقاً للتشريعات النافذة، لا يُسمح بعمليات النقل للسنوات الأولى والأخيرة. لذلك، يوفر هذا الإجراء مجموعة واسعة من الفرص الحصرية لهؤلاء الطلاب بسبب الوباء العالمي.
- سيتم اتخاذ الاستعدادات اللازمة لإجراء المعارض الخاصة بالتعليم العالي عبر الإنترنت، حيث ستقام هذه المعارض عبر منصات رقمية للترويج للجامعات ولجميع مؤسسات التعليم العالي بهدف الوصول إلى الطلاب الدوليين حول العالم.
- تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات لحل المشاكل المختلفة التي واجهها الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة – خاصة ضعاف السمع أو البصر- خلال تلقيهم التعليم عبر الإنترنت. وتم تقديم مجموعة من التدابير والاقتراحات للجامعات للتعامل مع هذه الحالات حسب نوع الإعاقة، وضرورة استخدام الترجمات عبر لغة الإشارة وضمان ظهور أعضاء هيئة التدريس على الشاشة للطلاب الذين يعانون من ضعف السمع. والانتباه إلى استخدام تنسيقات نصية غنية، واستخدام الخطوط الكبيرة والألوان المتباينة في العروض التقديمية، ووصف المحتويات المرئية والجداول أثناء المحاضرات، ووصف الرسومات خاصة في الامتحانات للطلاب ضعاف البصر، كما تم إبلاغ الجامعات بإجراءات مثل إعطاء وقت إضافي وفقاً لنوع الإعاقة في الاختبارات عبر الإنترنت. وضرورة الاهتمام بالطلاب الذين يعانون من إعاقات ذهنية واضطرابات طيف التوحد لضمان عدم فقدان الاتصال مع التعليم العالي، حيث يتوجب الاتصال بهؤلاء الطلاب وأسرهم على فترات منتظمة، ويجب على الأكاديميين في علم النفس أو المجالات الأخرى تقديم الدعم لهؤلاء الطلاب، إذا لزم الأمر.
- إلى جانب ذلك اتخذ مجلس التعليم العالي قرارات من شأنها تسريع إجراءات الترفيع والترقية الأكاديمية من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك، ووضع ضوابط جديدة للتعاقد مع الأكاديميين الأجانب تركز على ضرورة اختيار أصحاب الكفاءات والخبرات الجيدة على أن يكون لديهم نشاط بحثي من خلال نشر الكتب والمقالات العلمية في المجلات العالمية.
أخيراً، يمكن القول إنه على الرغم من الآثار السلبية التي خلّفتها الجائحة العالمية على قطاع التعليم والمؤسسات التعليمية فالآثار الإيجابية لهذه الجائحة ربما تفوق بكثير آثارها السلبية و"رب ضارة نافعة" فما طرأ على القطاع التعليمي خلال الأشهر الأخيرة يشكل علامة فارقة في المسيرة التعليمية في تركيا وفي العديد من دول العالم وساعد على تحقيق كثير من المكاسب والإصلاحات التي نادى بها كثير من الباحثين منذ سنوات خاصة فيما يتعلق بتوظيف التكنولوجيا الحديثة واستخدام التعليم الرقمي في الجامعات والمؤسسات التعليمية.