في تصريح لصحيفة "يني شفق" يقول الأكاديمي التركي ياسين أقطاي (مما يؤسف له أن بذور كراهية الأجانب والعنصرية التي زرعت في تركيا بتحريض من بعض السياسيين في المجتمع بدأت تؤتي ثمارها، وأن البلد الذي يصبح غير آمن للسوريين لن يكون أكثر أمانا وراحة لمواطنيه، فالكراهية الفاشية والعنصرية البشعة ستطول الجميع حتى تقتل صاحبها).
يشي هذا التصريح بأن ثمة من في المجتمع التركي بدأ يتلمس مخاطر تفاقم الخطاب العنصري الكاره والنابذ لنوع محدد من الأجانب لا يشتمل أبدا على أولئك المقيمين القادمين من الدول الأوروبية الشرقية منها والغربية، بل يقتصر كما هو واضح للعيان على العرب عموما والسوريين خصوصا وعلى بعض الجنسيات الآسيوية الأخرى التي تتخذ من تركيا معبرا مأمولا نحو البر الأوروبي الآمن، وأن هذا الخطاب العنصري الذي أصبح طيفه ومداه أوسع مما هو مقبول بسبب التراخي في مواجهته مبكرا في مهده مما وفر له بيئة آمنة لفرض نفسه على قطاع لايستهان به من المجتمع دون إدراك لمخاطره وأثره المدمر على المجتمع نفسه.
تنبئنا أحداث التاريخ الحديث أن المجتمع التركي كان على الدوام مجتمعا ملجئا، احتضن كل من أتى إليه ساعيا إلى ملاذ آمن فاحتضن ملايين اللاجئين من القرم وبلغاريا والبلقان عموما ومن ألبانيا والبوسنة وكوسوفو ومن شرق الصين وإيران وليبيا والصومال والعراق وسوريا، حتى اعتبرت تلك المسألة جزءا من القيم المجتمعية الراسخة لوقت طويل في وجدان المجتمع التركي.
الدولة العثمانية نفسها قبل تشكل الدولة التركية الحديثة كانت تتكون من مجاميع كبيرة من المهاجرين واللاجئين استقرت بهم الأوضاع في تلك الجغرافيا فأسسوا دولة سرعان ما صارت امبراطورية امتد سلطانها في كل الاتجاهات، فتعايشت وحكمت شعوبا مختلفة الأصول والأعراق لقرون طويلة إلى انتهى عمرها الافتراضي ونشأت مكانها دولة حديثة اسمها تركيا نزعت نحو تشكيل هوية قومية – بديلا عن الرابطة الإسلامية - تجمع من يسكن جغرافيتها الحديثة بعد أن اقتضت ظروف تشكلها تخليها عن كل المساحات الجغرافية التي حكمتها سابقا عربية كانت أو أوروبية، لتنشأ فيها بدورها دول وكيانات حديثة لا تربطها بتركيا الحديثة إلا الروابط الديبلوماسية التي تربط بين الدول المستقلة.
ربما اقتضت الظروف التي نشأت فيها تلك الدولة الحديثة التركيز على الرابطة القومية التي تجمع شعوب جغرافيتها بهدف تعزيز الهوية الجديدة لتلك الدولة، خصوصا أنها كانت ترزح تحت احتلالات مختلفة دفعت قادتها لخوض حرب استقلال واسعة النطاق لتعزيز مكان ومكانة الدولة الحديثة وجمع شتاتها الجغرافي المتعدد الاحتلالات، وقد نجحوا في ذلك مما جعل لتلك الدولة وقادتها مكانة كبيرة في ضمير ووجدان المجتمع التركي بكل أطيافه.
ما يزال ثمة قطاع لا يستهان به من الشعب التركي يرى في هذا الانفتاح خطرا يهدد الهوية القومية واللغة الوطنية، وهو ما ينبئ بوجود تورم في الشعور بالأنا القومية يدفع هذا القطاع لنبذ الآخر ويرى فيه تهديدا وجوديا له
لكن ما كان يصلح لزمان قد لا يكون صالحا لزمن آخر بالضرورة، فزمن صناعة وترسيخ الهوية الوطنية للدولة الحديثة حقق غرضه وبنيت الدولة وطردت المحتلين عن أراضيها، كما أنجزت ملامح الهوية الوطنية التركية ولغتها وماعاد الانفتاح على الآخر - في زمن العالم المفتوح - يشكل تهديدا للهوية القومية والانتماء إلى الجغرافيا الوطنية، مما يوجب معه طي زمن الانغلاق على الجغرافيا والانغلاق على الثقافة واللغة، وصار الانفتاح على ثقافات الشعوب ومعارفها ولغاتها شرطا لازما من شروط التطور الحضاري والارتقاء المديني والاقتصادي، مع ذلك ما يزال ثمة قطاع لا يستهان به من الشعب التركي يرى في هذا الانفتاح خطرا يهدد الهوية القومية واللغة الوطنية، وهو ما ينبئ بوجود تورم في الشعور بالأنا القومية يدفع هذا القطاع لنبذ الآخر ويرى فيه تهديدا وجوديا له، يغذي هذا التورم الشعور بإمكانية الاكتفاء بالنفس وبالإمكانات المتاحة والمعارف واللغة الخاصة لبناء حياة ومستقبل بعيدا عن المشاركة والتشارك مع الآخر المختلف، مناهج تعليمية منغلقة تمجد النفس وتعظم شأنها وتزدري الآخر وتحط من قدره ولهذا تجد عزوفا غير مفهوم عن تعلم لغات أخرى غير التركية بل ورفضا ونبذا لكل من يتحدث بلغة غيرها حتى لو كان أجنبيا(!!!).
تيار آخر من أصحاب الهوية الحائرة، يعتقد أنه أوروبي ويؤمن أن علمانيته المفرطة والمتطرفة وتبنيه وامتثاله الكامل لكل ما تريده أوروبا حتى لو كان نشازا عن قيم وأفكار المجتمع التركي تمثل بوابة ولوجه إلى فردوس العالم الأوروبي، وهو مستعد أن يسفح كل ماء وجهه على عتبات النادي الأوروبي أملا في قبوله دون أن يدرك أنه لن يلج هذا النادي مهما فعل لأن ما يتطلبه ذلك من اشتراطات واستحقاقات لا قبل للمجتمع التركي نفسه بقبولها، ومع ذلك ترى هذا التيار أيضا – رغم ما تفرض عليه رؤيته وأجندته من أن يكون أكثر تصالحا وانفتاحا على الآخر المغاير – يجنح أكثر نحو العنصرية لأنه عجز عن التخلي عن قوميته المفرطة التي تتناقض بالضرورة مع فكرة الاندماج مع النادي الأوروبي الذي يسعى عبثا لعضويته.
تركيا بلد ناشىء اقتصاديا وهو يحتاج لكل عوامل التعاون مع مختلف الدول والشعوب لتعزز مكانتها وترسخ مزيدا من الأداء المتطور في اقتصادها وآخر ما تحتاجه هو نبذ الآخر
هذه العملية التشريحية لا يقصد منها امتهان الشعب التركي كما سيحاول بعض عتاة التطرف القومي الأعمى تفسيرها، بقدر ما هي محاولة لتلمس مكامن الخلل البنيوي الذي يمكن أن يهدد لا قدّر الله سلامة المجتمع وسلامه، وهو تماما ما يحذر منه السيد أقطاي الذي افتتحنا بتصريحاته مدخل هذا المقال... فهذه الدولة التي شقت طريقها للارتقاء والتطور ورسخت الكثير من الإنجازات على هذا الطريق لا يمكن أن تستمر في ارتقائها بعقول مغلقة ولا بالانكفاء عن مد يد وجسور التعاون والتفاهم مع الآخر المختلف عربيا كان أو هنديا أو أوراسيا أو أوروبيا أو غير ذلك، فتركيا بلد ناشىء اقتصاديا وهو يحتاج لكل عوامل التعاون مع مختلف الدول والشعوب لتعزز مكانتها وترسخ مزيدا من الأداء المتطور في اقتصادها وآخر ما تحتاجه هو نبذ الآخر، لأنه ليس تركيا أو لأنه لا يتحدث اللغة التركية أو لأن له طباعا وقيما تختلف في بعض وجوهها عما يعتقده أو يؤمن به الأتراك، وعلى كل تركي أن يؤمن أنه ليس محور الكون ولن يكون، عندها يمكن له أن يملأ حيزه ومكانته الطبيعية التي يستحقها بجدارة بين الأمم والشعوب.
تركيا دولة تبحث عن مصالحها الحيوية في محيطها وفي العالم، لكن حتى تحقق أكبر فائدة مأمولة ومرتجاة في هذا المسار عليها أن ترمم جرّتها المثقوبة التي تحملها على أكتافها والتي تقطر من بعض أبنائها عنصرية تلوث ثياب حاملها وتسيء لها.