قد يكون توصيف المسؤول الروسي رفيع المستوى، لإجراءات تركيا الأخيرة المتضامنة مع أوكرانيا، بأنها "طعنة في الظهر"، مبالغ فيه، على غرار معظم تصريحات المسؤولين الروس، التي لا تخلو من "دراماتيكية" في توصيف أحداث ومواقف سياسية تشكّل تحدياً للمصالح الروسية.
لكن في الوقت نفسه، يمكن اعتبار إحدى الخطوات التركية الثلاث الأخيرة، المعدّة للتقارب مع الغرب، أشبه بـ "صفعة"، على وجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ومن بين الخطوات التركية الثلاث: السماح بإعادة قادة كتيبة "آزوف" إلى أوكرانيا برفقة الرئيس فلوديمير زيلينسكي، وتأييد انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والقبول المبدئي بانضمام السويد للحلف ذاته.. تبدو الخطوة الأخيرة تحديداً، هي الأكثر إيلاماً لـ روسيا، والأكثر مردوديةً للمصالح التركية.
وفيما يُستبعد أن ينجم عن الخطوة الأولى (إعادة قادة كتيبة آزوف)، أي تغييرات نوعية في ميدان المعركة بأوكرانيا، كما أنه لا قيمة حقيقية للخطوة الثانية (دعم تركيا لانضمام أوكرانيا للناتو) في ظل رفض الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية لذلك، كي لا تتحول الحرب في أوكرانيا، إلى حرب مباشرة للناتو مع روسيا.. تأتي الخطوة الثالثة (التأييد المبدئي لانضمام السويد إلى الناتو)، بوصفها تعزيزاً لقوة الحلف، وانتكاسة لهدف روسيا الاستراتيجي، من حربها ضد أوكرانيا، وهو الحد من توسع "الناتو" قرب حدودها.
في نيسان/أبريل الفائت فقط، صوّت البرلمان التركي بالموافقة على انضمام فنلندا للناتو، الأمر الذي مثّل أكبر انتكاسة استراتيجية لمصالح روسيا
لكن، كيف يمكن أن يؤثر ذلك على مستقبل العلاقة التركية – الروسية؟ بطبيعة الحال، هذه ليست المرة الأولى التي تبادل فيها بوتين وأردوغان، "الصفعات". ويمكن أن نذكر أنه في بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، تعرضت القوات الروسية لخسائر كبيرة، من جراء استخدام كييف الفعّال لطائرات "بيرقدار" المسيّرة التُركية. قبل أن تتراجع فعاليتها في ميدان المعركة هناك، بعد أن طوّرت الدفاعات الإلكترونية والجوية الروسية قدراتها على تعطيل وإسقاط هذه المسيّرات. وفي نيسان/أبريل الفائت فقط، صوّت البرلمان التركي بالموافقة على انضمام فنلندا للناتو، الأمر الذي مثّل أكبر انتكاسة استراتيجية لمصالح روسيا، بهذا الصدد. إذ تضاعفت الحدود المشتركة بين الناتو وروسيا، نحو ثلاثة أضعاف. وازدادت القدرة العسكرية للحلف، مع انضمام واحدة من أضخم الترسانات المدفعية الأوروبية، إلى صفوفه.
وبخلاف فنلندا، عجزت السويد عن معالجة مخاوف تركيا حيال دعم حزب العمال الكردستاني، انطلاقاً من أراضيها، من خلال نشاطات التجنيد والتمويل. وراهنت ستوكهولم، على خسارة محتملة لحزب العدالة والتنمية في انتخابات أيار/مايو الفائت. وهو ما لم يحدث. فأصبحت السويد مضطرة لتقديم التنازلات المطلوبة لإرضاء الطرف التركي، الذي سيقوده أردوغان، خمس سنوات أخرى.
وما ينطبق على السويد، ينطبق على دول أوروبية أخرى، وعلى الولايات المتحدة الأميركية، أيضاً. فهذه الأطراف، راهنت، وإن بشكل غير معلن رسمياً، على خسارة أردوغان وحزبه في الانتخابات الأخيرة. وبعد فوزه بنسب تتيح له حكماً مريحاً لتركيا في السنوات التالية، أصبح لدى دول الغرب استعداد أكبر لجذب تركيا. وهو ما تلقفته القيادة التركية، التي هي بدورها، بحاجة ملحة للتقارب مع الغرب، بصورة تتيح لها تصويب وضعها التوازني بين قوى الشرق والغرب، بعد أن انزاح قليلاً بصورة أقرب لروسيا، في السنة الأخيرة تحديداً. وبصورة تسمح لها أيضاً، بالاستفادة اقتصادياً، في وقتٍ تعاني فيه من أزمة عملة عصيبة. وهو ما حصلت عليه القيادة التركية بالفعل، عبر مواقف الدول الأوروبية المنفتحة حيال تجديد مفاوضات الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي، والعمل على توسيع اتفاق التجارة الحرة بين الطرفين، وهي إشارة ستفهمها وكالات التصنيف الائتماني الدولية، بصورة إيجابية، بالنسبة للاقتصاد التركي، مما سيشجع مستثمرين دوليين على الاستثمار في تركيا مجدداً.
ما سبق لا يعني أن تركيا تنقلب على روسيا. بل هي تبتعد عنها خطوة، باتجاه الغرب، بغية إعادة التوازن، الذي تريد القيادة التركية أن يكون بوصلة سياستها الخارجية. وهو ما أوضحه الرئيس التركي الذي قال إنه سيجتمع مع بوتين في آب/أغسطس المقبل، وسيناقش معه أموراً من بينها قضية إعادة قادة "آزوف"، التي أثارت استياء الروس.
المعادلات التي حكمت العلاقة الروسية – التركية، في المشهد السوري، قبل صيف 2022، ستعود للتأثير مجدداً، في المشهد السوري. معادلات تضطر الطرفين (الروسي والتركي)، إلى البقاء في وضعية: لا تفاهمات كاملة، ولا صراع كامل
كيف سينعكس ما سبق على المشهد السوري؟ قد تكون الإجابة عصيبة نسبياً. فللمشهد السوري تعقيداته الخاصة، على صعيد العلاقة الروسية – التركية. لكن يمكن القول، إن المعادلة التي حكمت عاماً انصرم، منذ منتصف صيف 2022، حينما كان أردوغان متلهفاً إلى تحقيق إنجاز نوعي على صعيد العلاقة مع نظام الأسد، لغايات انتخابية، قد أصبحت وراءنا. فـأردوغان الآن يشعر بثقة أعلى، بعد تجاوز منعطف الانتخابات، وإعادة تصويب العلاقة مع الغرب، بحيث ما عاد بحاجة ملحة لتقديم تنازلات قاسية لصالح الأسد.
وهكذا فإن المعادلات التي حكمت العلاقة الروسية – التركية، في المشهد السوري، قبل صيف 2022، ستعود للتأثير مجدداً، في المشهد السوري. معادلات تضطر الطرفين (الروسي والتركي)، إلى البقاء في وضعية: لا تفاهمات كاملة، ولا صراع كامل. سيبقيان في المنتصف، حيث يضطر كل طرف منهما للآخر، وفق ذات توازنات القوى التي حكمت المشهد السوري منذ آخر صراع مسلح واسع النطاق بينهما (بالوكالة) في شمال غربي سوريا، في ربيع العام 2020.