غرقت فرنسا في واحدة من أخطر الأزمات السياسية في الجمهورية الخامسة، بعد قرار الرئيس "إيمانويل ماكرون" غير المتوقع بالدعوة إلى انتخابات جديدة في أعقاب الهزيمة التاريخية لحزبه في الانتخابات الأوروبية في 9 حزيران/يونيو.
وفي حملة انتخابية مدتها عشرون يوماً - وهي أقصر فترة يسمح بها الدستور الفرنسي - يتنافس المرشحون في 577 دائرة انتخابية تشريعية خلال جولتين من الانتخابات في 30 حزيران/يونيو و7 تموز/يوليو.
ويهيمن على المشهد السياسي "حزب التجمع الوطني" اليميني المتطرف الذي حل في صدارة انتخابات البرلمان الأوروبي بنسبة 31.4 في المئة من الأصوات. وهي أعلى نسبة تصويت في تاريخ الحزب، وضعف ما حصل عليه حزب "ماكرون". وكان "حزب التجمع الوطني" - وهو حزب مناهض للهجرة ومتشكك في أوروبا ومتطرف شارك في تأسيسه في عام 1972 عضو سابق في حزب "فافن إس إس" - القوة السياسية الرائدة بـ 93 في المئة من البلدات الفرنسية.
والاحتمال الذي يشغل بال الجميع الآن هو "التعايش"، الذي يضم رئيسًا ورئيس وزراء من حزبين متعارضين وحزبًا من أقصى اليمين أو اليسار على رأس الحكومة الفرنسية. ولكن التعايش هو مجرد واحدة من عدة نتائج محتملة.
حتى الشهر الحالي، لم يكن أحد يتخيل أن مثل هذه السيناريوهات قد تحدث في بلد مثل فرنسا. ويرى المختصون بالشأن الفرنسي أن الكثير سيعتمد على ما يُسمى "الجبهة الجمهورية"؛ وهي تلك التي تنزع نحو الميل السابق للناخبين الفرنسيين، باسم المبادئ الأخلاقية، للتصويت بشكل جماعي ضد اليمين المتطرف لإبعاده عن السلطة، بالإضافة إلى الاعتماد على ارتفاعٍ في نسبة إقبال الناخبين.
وضعت الخبيرة الفرنسية، وزير الدولة السابق لحقوق الإنسان في فرنسا "راما يادا" أربعة سيناريوهات سياسية على الأقل يمكن أن تحدث في الأسابيع المقبلة. وترى "يادا" أن أي سيناريو من هذه السيناريوهات تقريبًا، لن يمنع من واقع ما ستواجهه فرنسا من أزمة دستورية غير مسبوقة، وسيتعين عليها أن تكافح من أجل الحفاظ على نفوذها في الاتحاد الأوروبي وعلى الساحة الدولية.
السيناريو الأول: أغلبية لليمين المتطرف
قد يصبح "جوردان بارديلا"، رئيس التجمع الوطني، رئيسًا للوزراء في تعايش مع "ماكرون". تشير استطلاعات الرأي إلى أن اليمين المتطرف قد يحصل على ما بين 235 و265 مقعدًا. لم يعد يُنظر إلى التصويت للتجمع الوطني كأمر مخزٍ، حيث ينضم المتقاعدون وأصحاب الدخل المرتفع لدعمه. أصبح اليمين المتطرف يُعتبر قادرًا على الحكم بفعالية، كما يتضح من دعمهم في المدن التي يديرها رؤساء بلديات من الحزب. تحالف اليمين المتطرف مع الجمهوريين قد يعزز فرصه في الوصول للأغلبية المطلقة.
إذا تحقق هذا السيناريو، فستتأثر السياسة الخارجية الفرنسية بشكل كبير، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. قد يشكك التجمع الوطني في التزامات فرنسا المالية تجاه أوكرانيا ويقلل من أولوية مكافحة التضليل الإعلامي الروسي. بالإضافة إلى ذلك، سيؤثر على موقف فرنسا من قضايا الشرق الأوسط، خاصة بعد استغلال التجمع الوطني لمأساة حرب "غزة" لخدمة أجندته المحلية.
إذا حصل اليسار على الأغلبية النسبية فقط، فسيواجه معارضة قوية وتهديدات متكررة بحجب الثقة.
السيناريو الثاني: أغلبية لليسار الموحد
يمكن لليسار أن يتوحد حول الجبهة الشعبية الجديدة، التي تضم عدة أحزاب يسارية، ويحقق بين 25 و32% من الأصوات. يعتمد نجاح اليسار على قدرته على البقاء متحدًا وسط الضغوط الداخلية والخارجية. تعهدت الجبهة الشعبية الجديدة بدعم أوكرانيا والسلام في أوروبا، والدعوة إلى الاعتراف بدولة فلسطين إلى جانب إسرائيل.
على مستوى الاتحاد الأوروبي، تدعو الجبهة الشعبية الجديدة إلى إنهاء اتفاقيات التجارة الحرة وإصلاح السياسة الزراعية المشتركة، بالإضافة إلى فرض ضرائب على الأغنياء على المستوى الأوروبي. إذا حصل اليسار على الأغلبية النسبية فقط، فسيواجه معارضة قوية وتهديدات متكررة بحجب الثقة.
السيناريو الثالث: غياب الأغلبية
إذا لم تظهر أي أغلبية واضحة، فلن يتمكن "ماكرون" من تعيين زعيم الحزب الفائز كرئيس للوزراء، مما يخلق حالة من الجمود السياسي. قد يبقى رئيس الوزراء الحالي "غابرييل أتال" في السلطة لإدارة الشؤون، لكنه لن يكون قادرًا على تمرير أي قوانين. في هذه الحالة، قد لا يكون أمام "ماكرون" خيار آخر غير الاستقالة، مما يؤدي إلى انتخابات رئاسية جديدة.
وفقًا للدستور الفرنسي، لن يُسمح لـ "ماكرون" بالترشح لولاية ثالثة، ما يفتح المجال لتساؤلات حول شرعيته بعد هزيمتين في شهر واحد. قد يكون للمجلس الدستوري الكلمة الأخيرة في هذا الشأن.
يراهن ماكرون على أن نظام الدورتين سيوفر "توضيحًا" من الناخبين الفرنسيين على فوز التجمع الوطني في انتخابات البرلمان الأوروبي.
السيناريو الرابع: انتصار حزب ماكرون
على الرغم من أنه لا أحد - ولا حتى أنصاره - يشير إلى هذا الاحتمال في هذه المرحلة، فإن الفوز الصريح هو ما يأمله "ماكرون"، مهندس الفوضى الحالية، وهو ما يطمح إليه. فهو يعتزم في هذه الحملة التشريعية القصيرة إيجاد حلفاء في الأحزاب السياسية الأخرى الرافضة لأقصى اليسار وما يسمى بـ "حلف الشيطان" بين رئيس المحافظين والتجمع الوطني.
ويراهن ماكرون على أن نظام الدورتين سيوفر "توضيحًا" من الناخبين الفرنسيين على فوز التجمع الوطني في انتخابات البرلمان الأوروبي. فالفوز الحاسم لـ "ماكرون" بأغلبية المقاعد، قد يكشف أن فوز حزب التجمع الوطني في وقت سابق من هذا الشهر كان مجرد انحراف. بل إنه قد يمكّن "ماكرون" من الحصول على الأغلبية التي لم يتمكن من تأمينها في عام 2022، عندما أعيد انتخابه لولاية ثانية. وقد يسمح له بعد ذلك بإحراز المزيد من التقدم في جدول أعماله في الجمعية الوطنية، حيث كان مهددًا باقتراح توجيه اللوم إليه في إطار التصويت على الميزانية.
حتى لو لم يكن من الواضح لماذا سيصوت الفرنسيون بشكل مختلف في غضون عشرين يومًا، فإن الفوز سيعني أن "ماكرون" كان قادرًا على تعويض الفارق بفضل حملة فعالة للغاية. أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن مثل هذه النتيجة ستعني العودة إلى العمل الطبيعي مع محاورٍ فرنسي قوي نجا من اختبار كبير وخرج أقوى بمجرد تعديلات وزارية.
بنى "ماكرون" نجاحه السياسي على سحق الأحزاب التقليدية الحاكمة من اليسار واليمين دون أن يبني أي شيء قوي يحل محلها.
وحتى لو كانت المؤسسات الفرنسية قوية، فإن الانقسامات في المجتمع والمزاج التشاؤمي للمواطنين الفرنسيين يجعل السياق السياسي متقلبًا للغاية. وإذا فاز أحد الطرفين دون أغلبية واضحة ومطلقة، فسيواجه "ماكرون" معارضة قوية وتهديدات بإسقاطه من خلال التصويت بحجب الثقة في البرلمان.
ومن المرجح أن تكون أي أغلبية ضئيلة للغاية أو منعدمة لدرجة أن سيناريو استقالة الرئيس وتنظيم انتخابات رئاسية جديدة يجري الحديث عنه بالفعل أكثر احتمالية، فإن الأسواق تتفاعل بشكل سيئ مع حالة عدم الاستقرار. فمنذ عام 2017، بنى "ماكرون" نجاحه السياسي على سحق الأحزاب التقليدية الحاكمة من اليسار واليمين دون أن يبني أي شيء قوي يحل محلها. وهو يواجه الآن أشرس معارضة له، ويتوقع "حربًا أهلية" إذا فاز "المتطرفون". لقد اختار المعركة، ولكن يبدو أن "ماكرون" في هذه اللحظة لا يملك سلاحًا.