لم توصف وسائل التواصل الاجتماعي، بأنها أدوات اتصال عبثاً، صحيح أنه كان لدينا قبل عقود وسائل اتصال وتواصل أصبحت قديمة، أما هذه بالمقارنة معها، فتتميز عنها بالسرعة الفائقة. بينما تضاءل استخدام الرسائل البريدية في التواصل، تلك التي عرفناها واستمرت عدة قرون، وربما اقتصر استعمالها حاليا على أوروبا وأميركا في التراسل بين الدوائر الحكومية والأفراد، ما يوثق إبلاغهم بالتعليمات والإرشادات والفواتير، وما يُسهّل على نشرات الدعاية والإعلان اقتحام المنازل. ومن باب الأسف لا غير، اختفت الرسائل التي كانت تستغرق شهراً في طريق الذهاب، وشهراً في طريق الإياب، ومعها الصناديق البريدية والطوابع البريدية وساعي البريد، وانتقلت في كثير من البلدان إلى المتاحف، ولم تعد الطوابع إلا لتسجيل مناسبات تذكارية، أو التذكير بعظماء الأمة.
ورغم ما يصيب الوسائل الحديثة من هدر، كمضيعة للوقت لا يمكن تلافيه، في ارتفاع منسوب الثرثرة فيها، مع إمكانية استثمارها وتوظيفها بشكل أفضل، وأكثر مردودية، من ناحية تأمينها التواصل مع العالم، وهو أمر لم يكن متوافرا من قبل بهذه الكفاءة، بل ومن الممكن تحسينها، فالعلم في تطور. لكن لكل وسيلة جانبها السلبي وجانبها الإيجابي. وإذا أردنا الحقيقة، فالإيجابي يفوق السلبي، فالذين اضطروا لمغادرة بلدانهم من أجل تحسين ظروفهم الاقتصادية، أدت لهم خدمة بالتخفف من آلام البعاد وعناء هموم السفر، فالافتقاد إلى الأهل والأصدقاء والأصحاب، أصبح ميسورا التغلب عليه، بالاتصال عن طريق الرسائل الإلكترونية والماسنجر والواتس وغيرها من الوسائل الموفورة بكثرة، كتابة وصوتا وصورة، وتقريبا بكلفة زهيدة، فنحن نستطيع التكلم مع صديق يبعد آلاف الكيلومترات لساعة وساعتين وأكثر من الزمن، ما يعادل زيارة تجمعنا مع العائلة أيضا، من دون أن تقلقنا الكلفة. لكن هل نجونا من الحنين؟ طبعا لا. هل ما زلنا نفتقد للوطن؟ نعم ما زلنا. أي أنها رغم ما تمنحنا من حميمية، فالمسافات تبقى حائلا بيننا، لا تغني في النهاية عن اللقاء وجها لوجه.
إن كتلة المثقفين التي غادرت سوريا وازنة، لكن كتلة المثقفين في الداخل ذات تأثير أكبر، فالذين في الخارج يستمدون منهم رؤاهم وعزيمتهم وقواهم، مع أنه لا نحن في الضوء ولا هم في العتمة
لا ريب أننا نحن السوريين أدركنا نعمة التواصل الإلكتروني منذ بدايات الثورة وخلالها في التنسيق بين ناشطي المظاهرات والإغاثة، وما حصل فيما بعد خلال الحرب، وما أعقبها وأدى إلى تقسيم سوريا إلى داخل وخارج، وتقسيم الداخل إلى إقطاعيات، وانقسام الخارج إلى بلدان ليست إلا بلدان لجوء، فالذين نزحوا أو هاجروا أو هجروا، سواء غادروا مضطرين أو رغما عنهم، أو بالقسر، حفاظا على حياتهم وسلامتهم، ونجاة بأولادهم وأرواحهم وكرامتهم، وأيضا طمعا بالحرية، حرية العيش والعمل والتعبير عن الرأي، لم يعدموا وسيلة للتواصل مع أحبائهم. صحيح أن الذين خرجوا ظفروا بالحرية، ولم تكن سوى ربما متعة العيش فقط، فالحرية مثل هذا الهواء الذي نتنفسه، لا نشعر به إلا إذا حرمنا منه، لكنه كان بالنسبة إليهم نوعاً من الرفاهية، وكان مؤلماً عندما جُرب. من قال إن الشعور بالحرية في الخارج ينفصل عن حرية الذين في الداخل، إن الحق في أن نكون أحرارا، لا يخضع لمنازعة نظام ولا دولة، ولا يصادر من أمن أو مخابرات. غير أن الحرية في الخارج حرية منقوصة، لا يفارق الذين يتمتعون بها الإحساس أنها ليست على هذا النحو، لا يريدونها لأنفسهم فقط، إن لم يشاركهم بها هؤلاء الذين يرزحون في الداخل تحت ما هو أقسى من افتقادها، إذ لا تكتمل إلا بهم ومعهم. وما الخوف من انعدام الرجاء والأمل، إلا في النظر بتشاؤم إلى مستقبل الأجيال القادمة، إذ لا يُهيأ لها سوى القيود.
إن كتلة المثقفين التي غادرت سوريا وازنة، لكن كتلة المثقفين في الداخل ذات تأثير أكبر، فالذين في الخارج يستمدون منهم رؤاهم وعزيمتهم وقواهم، مع أنه لا نحن في الضوء ولا هم في العتمة، يجمعنا الظلام نفسه. نحن في منفى حقيقي، وهم في غيتو حقيقي. شكرا لوسائل الاتصال التي كسرت العزلة بيننا، وكانت عونا لنا على عدم انقطاع الصلة معهم، وبأكثر من مستوى ومجال سواء كان ثقافياً أو سياسياً أو معاشياً.
هذا الوجود الكئيب الذي يرزح داخله كلانا، إذ ليس كل منا في عالمه، لا نحن خرجنا من سوريا التي نعرفها، وليسوا في سوريا التي يعرفونها، كلانا في هذا الداخل البديل، استحوذ علينا وعلى حياتنا وما علينا إلا أن نزيحه عنا.
تحية لمثقفي الداخل، هؤلاء الذين لم يرضخوا إلا لضمائرهم، هؤلاء الذين كانوا على سوية ثقافتهم. لم ينصاعوا لنظام النهب وتوزيع المنافع، ولم يمتثلوا لدعاواه وادعاءاته، يقع على عاتقهم رغم أنهم في الحيز غير الآمن عبء تجديد الأمل، فالحياة مستمرة، ولا تراجع عنها. هؤلاء أبرار الثقافة.
أما المثقفون الخونة، فلا يستحقون كلمة، هؤلاء الذين مع النظام وضد الناس، وإن ادعوا أنهم على الحياد، يربحون اليوم، فالخيانة مربحة، تلك أيامهم الذهبية.