تحضّر اللبنانيون على وجه الخصوص والشعوب العربية عامة منذ أيام قليلة لخطاب أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي لجأ إلى الدعاية في سابقة لم تحدث من قبل، ترويجا لخطاب طال انتظاره وفقا لتوقيت غزة، والذي تم تبريره بأنه جزءً من مواجهة المعركة، بدت الشوارع في لبنان في أثناء خطابه شبه فارغة في انتظار ما سيعلنه نصر الله في خطابه الذي امتد لأكثر من ساعة وهو في توقيت شمال غزة كثلاث سنوات متواصلة من القصف.
يستمد هذا الخطاب أهميته -فقط - من الشعب اللبناني الذي لم يضمر قلقه وخوفه من جبهة حرب اعتقدوا أنها ستفتح على مصراعيها، وهو ما هدد فيه نصر الله ضمن شروط محددة، إلا أن خطابه كان واضح المعالم، أن لا نية حقيقية له في خوض المعركة، مشددا على أنها معركة الفلسطينيين، نافيا علاقتها بأي ملف إقليمي ودولي.
أوجز نصر الله في خطابه الذي اعتاد التوجه فيه إلى حاضنته الشعبية معلنا مكاسبه وحلفاءه في المعارك التي يديرها في سوريا والعراق واليمن، 27 يوما من القصف المستمر على غزة، حاول فيه سرد الحدث كأنه يتوجه إلى شعوب عصر المذياع، والتي كانت تنتظر لأيام لسماع خطاب مطول ينتهي إما بإعلان صريح عن الدخول في حرب على العدو أو الانتصار عليه، وهو ما لم يحدث في كلتا الحالتين.
هدد نصر الله في خطابه والتهديد في خطاباته أمر شائع، رافعا إصبعه وهو أمر أكثر شيوعا، وبملء صوته، حذر الجانب الإسرائيلي من أي سلوك تجاه لبنان، وأن دخوله الكامل أي -حزب الله- في المعركة يتحدد من مسار وتطور الأحداث في غزة، لكن يبدو أنه سقط سهوا منه تحديد شكل التطورات، هل مجزرة أخرى؟ أم استخدام المزيد من الأسلحة؟ أم اعتداء مباشر على العاصمة اللبنانية؟
لا مصلحة لإيران إلى هذه اللحظة بخوض حرب مجهولة، وهي التي تحدد حروبها ومواقيتها، بدايتها ونهايتها، مكاسبها وخساراتها المحتملة، وهي التي تسيّر فصائلها كمسيراتها
بين حرب ولا حرب، رمى نصر الله في خطابه صنارة اشتعال فتيل الحرب الشاملة للجانب الإسرائيلي الذي يدرك حزب الله بأن لا نية له ولا قدرة رغم تهديداته بالتدمير الشامل للبنان بالدخول في جبهة ثانية، فالخطر الكامل على الاحتلال يكمن في غزة وليس في شمال إسرائيل، إذ لا مصلحة لإيران إلى هذه اللحظة بخوض حرب مجهولة، وهي التي تحدد حروبها ومواقيتها، بدايتها ونهايتها، مكاسبها وخساراتها المحتملة، وهي التي تسيّر فصائلها كمسيراتها، تجد طريقها في العواصم العربية وتضيعها في طريقها إلى القدس، معتقدة أنها تمارس الأمر نفسه مع من أعلنتهم حلفائها سياسيا، لكن، للجناج العسكري لحركة حماس توقيت منفصل، تحدده دون الرجوع لمن اضطرت للتحالف معهم وهو ما سيترتب عليه لاحقا مباحثات بين الجانبين.
لم يأت خطاب نصر الله مفاجئا، فهو الذي أعد خطابه بتأن وظهر هادئا نسبيا، شاحب الوجه، ينفعل عاليا كلما تراجع مستوى الخطاب مع اندماجه في استعراض مجريات المعركة كرواية، ولعل ما ظهر جليا كعين الشمس هو تشديد نصر الله وتكرراه حول مسألة الغياب التام للتنسيق بين حركة حماس وإيران في عملية طوفان الأقصى، وهو ما يبدو واضحا أنه أربك من تعلن نفسها حليفة للقضية الفلسطينية، معلنا نصر الله أن السرية المطلقة لم تزعج الأطراف الداعمة لحماس، وهو على مباركته وإشادته ببطولة عناصر حماس، أرسل لقياداتها رسالة واضحة ومبطنة في آن معا يصرح فيها، أنها حربكم وحدكم، وأنتم أصحابها وفي مضمونها يستكمل رسالته بالقول، ندعمكم وفق ما تترتب عليه مصالحنا، وما يترتب علينا أمام جمهورنا، ودعايتنا، والأهم، وفق توقيتنا، لا ما يفرض علينا. إذاً لا حرب شاملة تلوح في الأفق، وهذا لا يعني الانسحاب، ولا يعني أيضا الاستمرار وفق قواعد الحرب، إذ لا يبدو الأمر محسوما من الجانب الإيراني، ولا تجهيز مسبق لحرب محتملة، ورغم ذلك وجد نصر الله لحزبه موقعا في الحرب على غزة مستعرضا ما جذبته الجبهة اللبنانية من قوة عسكرية وجوية وبحرية إسرائيلية يشير فيها إلى التهديد الذي يمثله على الكيان الإسرائيلي شمالا والأميركي في الشرق الأوسط على وجه الخصوص ولعله التهديد الأكثر جدية في معركته الأصيلة التي يقودها إلى جانب إيران وبالنيابة عنها أحيانا.
لماذا لا يخبرنا "السيد" وهو الذي يجيد تشريح مجريات الأحداث تماما كما العواصم حول الفروقات بين فلسطين وسوريا، بين غزة وإدلب، هل تختلف ملامح الأبرياء؟ هل تختلف وجوه أصحاب الأرض؟
يجيد نصر الله الخطاب على وقع الحروب والأزمات، كما يجيد التعاطف حصرا مع الدم الفلسطيني، تراه يتعاطف ويظهر ألمه وغضبه على مشاهد الإجرام في غزة، فيجبرك رغما عنك على التساؤل، هل كانت جثث الأطفال في حمص مثلا من ورق؟ أم أن النساء في إدلب كن دمى؟ ماذا عن ممارسة حزبه عمليات التطهير العرقي في مختلف الأراضي السورية؟ ماذا عن حصار المدنيين وتجويعهم واستهزاء جمهوره الذي يلبيه بالتقاطه صور الموائد؟ هل خيَلت له حمص تل أبيب مثلا؟ هل اختلفت الجوامع في سوريا عن تلك الموجودة في غزة والذي استنكر بأشد العبارات الاعتداء عليها، لماذا لا يخبرنا "السيد" وهو الذي يجيد تشريح مجريات الأحداث تماما كما العواصم حول الفروقات بين فلسطين وسوريا، بين غزة وإدلب، هل تختلف ملامح الأبرياء؟ هل تختلف وجوه أصحاب الأرض؟ ثم ماذا عن الغزاة حين تختلف لغاتهم وملامحهم وعقائدهم، كيف يمارسون الأساليب نفسها!.
هي إذاً حرب فلسطينية وفلسطينية فقط، يواجه فيها سكان غزة مصائرهم أمام مرأى العالم، يتخذ الداعم لهم قبل العدو وضعية المتفرج المشاكس، إيران التي أطلقت على نصف ألويتها ومعاركها اسم القدس والأقصى، ولأجلها احتلت لبنان وشرذمت سوريا وشرحت اليمن وأنهت العراق، ظهرت اليوم معلنة أنها معركة الشعب الفلسطيني، الفلسطينيون وحدهم، فهل سمعت أميركا؟