منذ انطلاق ثورات الربيع العربي وصعود نجم كثير من الحركات الإسلامية المعتدلة منها والمتطرفة، ازداد الحديث عن ضرورة عدم إقحام الدين في السياسة، واستغلال المنابر الدينية لأغراض سياسية. وإن كان النقاش قد ارتبط بالحركات والأحزاب الإسلامية ورفض استخدامها للدين في الصراع السياسي، إلا أن استغلال المنابر الدينية لأغراض سياسية لم يكن حكرا على دين أو طائفة دون سواها.
وبالطبع دون أن ننكر أن أي رجل دين هو مواطن قبل أي شيء آخر، له جميع حقوق المواطنة وعليه واجباتها بما في ذلك إبداء رأيه السياسي في شتى المواضيع، ولكن في الوقت نفسه على رجل الدين أن يدرك أنه طالما أراد التعاطي بالشأن السياسي، فقد بات عرضة للانتقاد وللرد عليه دون أن يعني ذلك أن الرد يستهدف موقعه الديني وما يمثله ومن يمثلهم من اتباع.
إلا أنه وفي عالمنا العربي عموما والمشرقي خصوصا اعتدنا على انتقاد استغلال بعض رجال الدين المسلمين للمنابر الدينية والخطب لأغراض سياسية، وتحاشينا توجيه أي انتقاد لرجال دين من طوائف أخرى وتحديدا المسيحية منها وما يعنيه استغلالهم لمنابرهم من إحداث شرخ في المجتمعات وخصوصا مع تحاشي الجميع الرد على المواقف التي يطلقونها انطلاقا من أنهم يمثلون أقلية دينية في المنطقة.
وفي الحقيقة فإن ذلك فيه شيء من الانفصام أو النفاق، فإن كان من ينتقد ويعارض تدخل رجل الدين المسلم بالسياسة فإنما يفعل ذلك انطلاقا من إيمانه بضرورة تحييد الدين عن العمل السياسي وضرورة أن يحل مفهوم المواطنة في الدولة بدل مفهوم الطوائف المجتمعة في كيان واحد، فإن ذلك لا ينسجم مع التعاطي مع فئة من المواطنين كـ “أقلية" فقط لأنهم ينتمون إلى مذهب آخر. فالأقلية والأكثرية يجب أن تكون نتيجة انتخابات لا نتيجة انتماء ديني، أو إيمان، أو لون، أو عرق، هذا من حيث المبدأ، أما من حيث التطبيق، فمن يؤمن حقا بتحييد المؤسسة الدينية عن السياسة عليه أن يطبق ما يؤمن به.
عند انعقاد "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية" في أبو ظبي في العام 2019، ناقش المشاركون يومها موضوع أحقية رجال الدين في الخوض بالسياسة، وقال حينذاك رئيس الأساقفة الكاثوليكي في الهند فيليكس متشادو، "أن خوض رجال الدين بالأحزاب السياسية سيؤدي إلى تحيزهم نحو أحد الأحزاب، أي أنه استثنى بقية الأحزاب، ولذلك لا يجب علينا كرجال دين بالكنيسة الكاثوليكية التدخل بالأحزاب السياسية، لكننا نضطر إلى التدخل بالشأن السياسي أثناء الأزمات التي تتعلق بعامة الناس وحاجاتهم كالحروب والفقر والكوارث". بينما رأى الأب نبيل حداد من المركز الديني لبحوث التعايش الديني الأردني "أن رجال الدين لا يجب عليهم الاشتغال بالسياسة"، وأن هناك "فرقا بين أن يكون المنبر الديني منبراً يدعو للخير، ويذكر الناس بمنظومة القيم الخيرة والفضائل والمُثُل التي تدعو إليها الأديان، وبين تحول رجل الدين إلى ناطق بالإيديولوجيا من خلال منبر الدين، ففي كل مرة نخضع الدين لخدمة السياسة والأجندات السياسية، نحول هذا الدين إلى إيديولوجيا".
وكي يكون الشخص منسجما وصادقا مع قناعاته، فلا يمكن له أن يقبل بهذا الكلام إن كان المقصود بالمنبر هو الجامع ويرفضه إن كان المنبر هو الكنيسة، كما يحصل في كثير من المواقف التي يطلقها سياسيون وناشطون يدعون المطالبة بالدولة العلمانية أو أقله يطالبون بعدم تسيس الدين.
في المنطقة تعيش بعض النخب السياسية تحديدا نوعا من الانفصام، فهي ترفض بشكل كامل تدخل "الشيخ والمفتي" بالشأن السياسي، وتبرر تدخل "البطريرك أو الخوري" بذات الشأن، في لبنان مثلا، من يرفض ويستهجن تدخل المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان بالشأن السياسي وتأييده العلني للثنائي حزب الله وحركة أمل، تراه نفسه يبرر تدخل البطريرك الراعي الذي لا يدع مناسبة إلا ويكرر تأييده للرئيس ميشال عون من منطلق حماية الموقع المسيحي، حتى بات البعض يطالب بتدخل أكبر لمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان للرد على مواقف الراعي حينا وقبلان حينا آخر. ولكن السؤال حينذاك، ما الداعي لمجلس النواب والدستور وكل مؤسسات الدولة إن كان البعض يرغب أن يكون الحل والربط بأي خلاف سياسي هو بأيدي المؤسسات الدينية ورجالها؟
لم يكتف الراعي بإطلاق مواقف مؤيدة لعون كونه رئيسا للجمهورية اللبنانية، فقد سبق له أن أطلق مواقف مؤيدة لبشار الأسد في بداية الثورة السورية عندما حذر مما وصفها هو بـ "مرحلة انتقالية في سوريا قد تشكل تهديدا لمسيحيي الشرق". حتى إن مواقفه يومها أثرت على زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية فلم يُحَدد له موعدا مسبقا للقاء سيد البيت الأبيض ولم يستقبل بحرارة كأسلافه كما وصفت الصحف يومها. كذلك لم تعتبر المعارضة السورية يومها أن المسيحيين وخصوصا الموارنة منهم مؤيدون لقاتلهم، بل اكتفوا باستهجان واستنكار ورفض مواقف الراعي. الراعي هو نفسه الذي لم يعارض أيضا تدخل حزب الله عسكريا في سوريا، ومع ذلك يصر البعض اليوم أن يتهم كل من يعارض مواقف الراعي السياسية بأنه ضد حقوق المسيحيين، فهل يرى هؤلاء أن حقوق المسيحيين يكفلها حلف الأقليات الذي دافع عنه علنا البطريرك الراعي عندما أيد الأسد وحزب الله، ويستمر بتأييده اليوم بإصراره على دعم ميشال عون أيا تكن مواقفه فقط لأنه ينتمي إلى الكنيسة ذاتها؟ أم يرون أن حقوقهم هي كحقوق سائر المواطنين يجب أن تكفلها الدولة والدستور والقوانين؟
عندما قرر البطريرك الراعي التعاطي بالشأن السياسي وعدم الاكتفاء بإطلاق مواقف وطنية جامعة، فهو بذلك وضع منصبه الديني جانبا ودخل بالسجال السياسي، والرد عليه هو رد مشروع لأنه رد على مواقف سياسية يطلقها وليس ردا على أي شيء يتعلق بإيمانه ومعتقداته الدينية.