بين أوهام السقوط وإعادة التدوير.. من المتوهم الأسد أم معارضوه؟

2024.11.16 | 02:52 دمشق

74
+A
حجم الخط
-A

عادت فكرة سقوط الأسد لتطفو على السطح من جديد بعد فترة طويلة من يأس السوريين ووصولهم إلى مرحلة متقدمة من الإقرار بأن ذلك السقوط أصبح بعيد المنال ما لم تحدث معجزة.

بل، على العكس تمامًا، فقد كان على السوريين أن يعيشوا خيبة وراء أخرى من جراء انفتاح الكثير من الدول العربية على الأسد، وإعادة الاعتراف به، وإعادة تدويره من خلال المصالحة التي أقدمت عليها ذات تلك الدول التي كانت تصر على سقوطه، بدءًا من الإمارات وليس انتهاءً بالسعودية.

ورغم قسوة الموقف العربي والصدمة وخيبة الأمل التي شكّلها للسوريين، إلا أن ذلك لم يكن أمرًا ذا دلالات كبيرة وحاسمة فيما يتعلق بالاحتمالات الواقعية والحقيقية لإعادة تدوير الأسد بحكم انعدام وزن العرب في القرار الدولي. فإلى جانب عمليات التطبيع مع النظام وافتتاح السفارات وإعادة الأسد إلى الجامعة العربية ودعوته لحضور القمم والاجتماعات، كانت القوة الأكبر (الولايات المتحدة) مستمرة في فرض العقوبات ضد النظام وإصدار المزيد من القوانين التي تدلل على رسوخ الموقف الأميركي من الأسد ونظامه، مما يبقي للطامحين في سقوط الأسد فسحةً من الأمل، رغم يقينهم بأن أميركا لن تساهم في ذلك السقوط ولن تسعى إليه، وربما كانت تبارك بقاءه من الباطن، ولكن يكفي أن موقفها الصريح لم يتغير، وبالتالي لن يحسم موضوع بقاء الأسد وقابليته لإعادة التدوير حتى وإن لم يساهم في سقوطه.

عودة دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية بكل مشاريعه السابقة التي لم يحققها في فترة رئاسته الأولى، ولا سيما ما يتعلق بموقفه من إيران والذي يلتقي بموقف نتنياهو الحاسم ويدعمه.

وربما كانت المتغيرات في الموقف التركي من الأسد صدمة كبيرة للسوريين الذين لم يتخيلوا أن تذهب تركيا يومًا ما في ذلك الاتجاه. ولو أن المصالحة التركية مع نظام الأسد تمت فعلاً، لكانت بحد ذاتها مسارًا خاصًا لإعادة تدوير الأسد من البوابة التركية، ولكان وهم النظام حينها قد تحول إلى واقع. غير أن الموقف التركي ما يزال حتى الآن يراوح في منطقة العصا والجزرة، ولم يحدث ذلك التقارب على أرض الواقع إلا من خلال التصريحات القابلة لمختلف التفسيرات والتحليلات التي أكد بعضها أن الخطوة التركية لن تكون في صالح الأسد.

بكل الأحوال، فإن تسلسل الأحداث وتعاقبها وطبيعة تلوناتها ومتغيراتها منذ عدة أعوام كانت تشير بوضوح إلى أن سقوط الأسد لم يعد أمرًا مطلوبًا دوليًا ولم يعد مجالًا للنقاش، وبالتالي لم يعد وارداً ولا مطروحاً، بقدر ما كانت فكرة إعادة تدويره أيضاً مستبعدة. وارتطم رأس السوريين بسقف واقع لا يمكنهم رؤية غيره، وهو مشهد بقاء الأوضاع في سوريا على حالها بكل تفاصيل الخريطة السياسية والعسكرية القائمة والمعقدة، وبكل قوى الأمر الواقع الموجودة على الأرض السورية، وبكل السيناريوهات المعتمة التي تنتظر سوريا، ولا سيما بوجود إيران كقوة لا يُستهان بها في سوريا على المستويين السياسي والعسكري، فضلاً عن تأثيرها على المستويين الاقتصادي والثقافي، وبالتالي فإن سقوط بشار لم يكن يعني أي تغيير حقيقي لصالح السوريين طالما بقيت إيران وميليشياتها في بلدهم.

غير أن الأشهر الأخيرة حملت متغيرين عميقين قلبا المشهد رأسًا على عقب، وأعادا ترتيب الحسابات، أولهما حرب إسرائيل على حزب الله وإصرارها ليس فقط على إنهائه كقوة عسكرية في لبنان، بل أيضًا في سوريا، وكذلك ضرب إيران وميليشياتها في سوريا وبشكل أثبت أنه جدي للغاية هذه المرة، الأمر الذي خلخل المعادلة مرة أخرى وبشكل غير متوقع، ونتج عنه أحداث كبيرة، كمقتل الكثير من قادة حزب الله، وبشكل خاص مقتل حسن نصر الله ذاته، الذي كان أحد الدعامات الرئيسية في حلف المقاومة والذي كان فعلياً أقوى من الأسد وأكثر أهمية بالنسبة للحلف.

وثانيهما عودة دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأميركية بكل مشاريعه السابقة التي لم يحققها في فترة رئاسته الأولى، ولا سيما ما يتعلق بموقفه من إيران والذي يلتقي بموقف نتنياهو الحاسم ويدعمه. وكل ذلك شكّل إرباكاً حقيقيّاً للأسد وعرقلة لمشروع إعادة تأهيله، بل وتهديداً كبيراً بخلخلة الأرجل المستعارة التي يقف عليها لأكثر من ثلاث عشرة سنة.

لم تكن فكرة سقوط الأسد مجرد أوهام في أذهان السوريين الذين شاركوا في الاحتجاجات ضد النظام منذ العام 2011، ولم تكن تلك اللغة اليقينية التي تبناها السوريون في موضوع السقوط أوهامًا أيضاً، بل استخلاصات مبنية على الوقائع وعلى طبيعة سير الأحداث حينها ومقارنتها بالأحداث شديدة التشابه في الدول الأخرى التي شهدت الربيع العربي، وأيضًا بالقياس إلى الحتميات التاريخية، فضلاً عن إجماع سياسيي العالم حينها على تلك الحتمية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية.

بل يمكن القول إن استمرار الأسد كان هو الوهم الذي عاش عليه هو وأنصاره وأتباعه، ولكن ذلك الوهم هو الذي انتصر بحكم خلل بنيوي في النظام العالمي وفوضى الأوراق السياسية التي بعثرتها رياح المصالح المتضاربة بين القوى الدولية، ولكن كل ذلك لم يغير الأسباب التي ما تزال تحتم السقوط.

لو كان الأسد قويًا ومستقلاً ومسيطرًا بشكل فعلي على المناطق التي يحكمها، لو كان لاعباً سياسيّاً له شأن ووزن، ولو أنه احتفظ بأوراق حقيقية يمكن أن يرميها على طاولة المجتمع الدولي، لكانت فكرة إعادة تدويره واردة رغم كل الجرائم التي ارتكبها، لأن القوى الدولية تتعامل في النهاية مع المنتصر وتتجاوز فكرة الحق والباطل. ولكن القوى الدولية اليوم لا تجد سوى وكلاء الأسد وداعميه وحماته إن أرادت التعامل مع الشأن السوري، فضلاً عن أن استمرار الأسد بالقوة أمر لن يدوم طويلاً في ظل انهيار تام للمؤسسات، وانعدام للخدمات، وخلو الأفق من أي إمكانيات لتحسين الأوضاع المعيشية ولو بالحد الأدنى، مع استشراء غير مسبوق للفساد والجريمة والخلافات العميقة بين عملاء النظام وأعوانه وتبعياتهم المختلفة ومشاريعهم البعيدة تمامًا عن المبادئ الوطنية.

أياً كانت أوهام معارضي الأسد، فهي أكثر واقعية من أوهام الأسد نفسه، فسقوط الأنظمة أمر طالما حدث في التاريخ، أما ترميم الجثث السياسية المتفسخة فهو أمر لا يتماشى مع منطق الحياة.

وبالمقارنة بين أوهام النظام ومعارضيه، يبقى الأسد هو المتوهم بكل مقاييس المنطق والوقائع، ويمكن وصف الحالة بأنها حالة وهم طويل الأمد، وهم لعبت ظروف كثيرة ومعقدة في امتداده لدرجة جعلت أصحابه يعيشونه كواقع، متناسين أن إعادة تدوير الأسد وإعادة الاعتراف به من قبل المجتمع الدولي ستواجه بعقبات إجرائية كثيرة إن استطاعت إزالة العقبات السياسية. فهل ستعيد الدول علاقاتها مع الأسد كونه إحدى قوى الأمر الواقع؟ حيث لم يستطع الأسد استعادة سوريا بالكامل ولا إعادة توحيدها، فمع أي سوريا سيتعامل المجتمع الدولي في حال قبل بالأسد؟ وأي تعامل سيكون مع الأسد العاجز عن اتخاذ أي قرار دون الرجوع إلى روسيا وإيران وغيرهما من الدول المتحكمة بالشأن السوري، بما في ذلك قرار اتصال يجريه مع العالم الخارجي، أو قرار خروجه خارج القصر؟

أياً كانت أوهام معارضي الأسد، فهي أكثر واقعية من أوهام الأسد نفسه، فسقوط الأنظمة أمر طالما حدث في التاريخ، أما ترميم الجثث السياسية المتفسخة فهو أمر لا يتماشى مع منطق الحياة، ناهيك عن منطق التاريخ. يمكن أن يصلح مرحلياً، ولكنه بالتأكيد غير قابل للاستمرار.

لا يمكن لأحد أن يتنبأ يقينًا في عالم السياسة، ولا سيما في فترة اختلطت فيها المفاهيم والمصالح والعلاقات والرؤى، غير أن تحديد الواهم يتم من خلال كتلة المعطيات ومن خلال قراءة الوقائع. ومن خلال كل ذلك، سنجد أن الأسد بات عبئًا على بلده وعلى شعبه وعلى مؤيديه ومعارضيه وعلى المجتمع الدولي، وما يزال يتوهم أنه قادر على عبور هذه المرحلة ويتوهم أنه سيعود لممارسة صلاحياته التي كان يتمتع بها قبل العام 2011. هذا هو الوهم بعينه الذي أدمنه الأسد كإدمانه على السلطة والأستاذية، وأيضًا كإدمانه على الكوميديا التي يتوهم أنه يجيد صناعتها.