لا يمكن النظر إلى ما يجري بحق اللاجئين السوريين في لبنان على أنه فصل معزول عن جذر المأساة السورية، إذ يبدو أن السلطات اللبنانية المحكومة بتوجهات حزب الله وحزب ميشيل عون تجاوزت مرحلة الحاجة إلى شعارات الأمم المتحدة لتستر ممارساتها وسلوكها العدواني بحق اللاجئين، بل ربما إن الظروف باتت مناسبة أكثر من أي وقت مضى للتعبير عن تماهيها المطلق مع السلطات الأمنية للأسد من جهة استهداف المواطنين السوريين.
فما يقوم به جهاز المخابرات اللبنانية من مداهمات لمخيمات اللاجئين السوريين واعتقال الشباب من البيوت تحت التهديد بالسلاح، ومن ثم زجهم بالسجون لسوقهم وتسليمهم للسلطات الأسدية، إنما هو أمر في جوهره لا يختلف عن سلوك سلطات النظام في مداهماتها لبيوت السوريين في أي مدينة أو بلدة سورية، ولئن كان من الصحيح أن هذا الانفلات الأمني المتوحش لم يكن مباغتاً وإنما جاء مكمّلاً لممارسات سابقة لم تكن خافية الدلالات، ولكن في الوقت ذاته وجد في الظرف السياسي الراهن ما يمكن أن يجسّد فضاء أكثر ملاءمةً لهذا النزوع العدواني حيال المواطنين السوريين في لبنان، ونعني بذلك رواج نبرة التطبيع وإعادة العلاقات مع نظام الأسد التي بدأت تتعالى على أعقاب تداعيات زلزال السادس من شباط الماضي.
لا يبدو السيد بيدرسن معنياً بمعاناة المواطن السوري بأي شكل من تداعياتها، فهي شأن ربما بات معتاداً ولا يجب أن يكون مُنغِّصاً لبوادر السلام والانفراج
إذ يمكن الذهاب ببساطة إلى أن السلطات اللبنانية لا ترى في سخونة أحاديث التطبيع العربي مع الأسد سوى غطاء سياسي مناسب لممارسة المزيد من الاضطهاد بحق اللاجئين، يدفعها ويحفزها إلى ذلك تجاهل أممي لما يجري، والاكتفاء بتصريحات خجولة لا ترقى إلى مستوى الجريمة، بل حتى التصريحات التي صدرت عن جهات أممية بدت آنية أو ربما جاءت لدفع العتب لا أكثر كما يقال، بدليل أن تلك الإدانات على وجلها وبهاتتها، قد غابت نهائياً عن لسان المبعوث الأممي السيد بيدرسن خلال إحاطته التي قدمها أمام مجلس الأمن يوم السابع والعشرين من نيسان الماضي، بل يمكن الذهاب إلى أن بيدرسن – كعادته - لا يرى في المشهد من معاناة السوريين سوى ما يسمّيه من
(خروقات الفصائل العسكرية على خطوط التماس مع قوات الحكومة السورية)، وكذلك (استهداف القوات التركية وفصائل المعارضة التي تنسق معها لقوات سوريا الديمقراطية)، في حين تغيب عنه تماماً الاستهدافات اليومية لمدفعية الأسد وطائراته للبلدات والقرى والمخيمات في ريف إدلب الجنوبي والشرقي.
وبالمجمل لا يبدو السيد بيدرسن معنياً بمعاناة المواطن السوري بأي شكل من تداعياتها، فهي شأن ربما بات معتاداً ولا يجب أن يكون مُنغِّصاً لبوادر السلام والانفراج التي تلوح في الأفق محمولةً في حقائب السفراء الجدد الذين ترسلهم حكوماتهم إلى دمشق من جديد.
لم يُخفِ بيدرسن – خلال إحاطته المشار إليها – حفاوته واغتباطه الشديد بما قامت به بعض الحكومات العربية من مبادرات تطبيعية مع نظام الأسد، بل يجد فيها مساهمات فعلية رافدة لمشروع (خطوة مقابل خطوة) الذي أطلقه ملك الأردن بتشجيع روسي منذ عامين، وكلّما فقد هذا المشروع مقوّماته وانفضح زيفه، يبادر بيدرسن للبحث عن مقومات جديدة له، ولا شك أنه وجد في المسعى العربي لاحتضان الأسد بداية موفقة لفصل جديد يتيح له المضي في مرحلة ماراتونية جديدة مع القضية السورية، ولهذا لم يتوان بيدرسن عن تقديم الشكر للخارجيات المصرية والسعودية والأردنية، لقاء ما وفره وزراؤها من اهتمام جديد بالقضية السورية يتيح له مدخلاً أكثر جدوى من ذي قبل.
لا ينسى السيد بيدرسن، كما في إحاطاته السابقة، التعريج العابر والسريع على قضية المعتقلين والمغيّبين، لكن بأسلوب وعبارات فيها الكثير من التعميم، تتيح له التخلّص من تسمية الأمور بمسمياتها، وتنجيه من الحرج، إذ إن هؤلاء المعتقلين والمغيبين – من وجهة نظره – هم مجهولو الإقامة، كما هي مجهولة الجهة التي اعتقلتهم، وإن كان لا بدّ من تحديد المسؤوليات، فالأنسب توزيعها على جميع سلطات الأمر الواقع، لا لشيء، سوى ليبقى الجميع متساوين في المسؤولية عن الجريمة، ولا يكون نظام الأسد سوى طرف كبقية الأطراف العابثة بدماء السوريين ومصائرهم، وكذلك ليس سوى إحدى السلطات الأربع التي تتحمّل وزر المعاناة السورية، وبهذا تكون المأساة السورية ذات أفرع لا جذر لها، ولكنّ سعيَ بيدرسن لتعميم الجريمة والمساواة في المسؤوليات لا يطول الاعتبار الذي يحظى به الأسد – وفقاً لبيدرسن – وهو الشرعية التي ما تزال بحوزته بالمطلق.
المضمون الفعلي لمسعى بيدرسن في (خطوة مقابل خطوة) هو مكافأة نظام الأسد لقاء مَنْحه صكوك العفو عن قسم من المعتقلين واللاجئين السوريين
وربما لهذا السبب كان بيدرسن حريصاً على ربط الحديث عن المعتقلين بمسألة (إعادة الإعمار والتعافي المبكر) ربما كقرينة تحفزيزية، أو تبشير مسبق بالإرهاصات العملية لمشروع (خطوة مقابل خطوة)، إذ يمكن لنظام الأسد، إنْ هو أفرج عن عدد من المعتقلين، يكون عندئذٍ تقدّم خطوة إلى الأمام، وعلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن يتقدّم بخطوة مقابل ذلك، لعلها تتمثّل بالموافقة على إعادة إعمار ما خرّبه الأسد خلال حربه على السوريين منذ العام 2011، وربما أيضاً يتقدم الأسد بخطوة أخرى تتجسّد بالسماح بعودة (مجهولة العواقب) لعدد من اللاجئين والنازحين الذين شرّدهم من بيوتهم منذ سنوات، مقابل خطوة مماثلة للمجتمع الدولي تتجسّد بمُنحٍ مالية ضخمة لتجديد البنى التحتية السورية (شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي وإصلاح قطاع التعليم وسوى ذلك)، وبهذا يكون المضمون الفعلي لمسعى بيدرسن في (خطوة مقابل خطوة) هو مكافأة نظام الأسد لقاء مَنْحه صكوك العفو عن قسم من المعتقلين واللاجئين السوريين.
كما ينبغي ألّا يغيب عن البال الحرص الشديد الذي يبديه بيدرسن في كل إحاطاته على إشادته وتمسّكه بالدور المنوط بالنساء المشاركات بوفد المجتمع المدني فقط، ما يدعو للتساؤل: وما حال باقي النساء السوريات؟ هل يصنّفهنّ بيدرسن في صفوف الإرهاب؟
التأكيد الذي يبديه بيدرسن - خلال إحاطته – على ضرورة تعاون كل الأطراف الإقليمية والدولية، مشيراً – كذلك – إلى عدم جدوى القرار (2254) في حال غياب التعاون المشار إليه، يكشف إلى حد بعيد مساحة التوافقات القائمة بين مسعى بيدرسن ومسعى التطبيع العربي مع الأسد، تلك التوافقات التي تجد مقوّمات وجودها وشرعنتها على أمرين اثنين: فشل المرجعيات الأممية وعجزها التام عن التعاطي مع قضايا الشعوب بحدّ معقول من العدالة، وذلك أمام نزعات البلطجة للدول العابرة للقوانين والنواظم الإنسانية، وكذلك في تحلّل تام وتنصّل عربي من أي مسؤولية أخلاقية ليس حيال حاكم طاغية استباح دماء شعبه فحسب، بل حيال مقتلة فظيعة للشعب السوري قل نظيرها في العصر الحديث.