في مفهومنا البسيط تعرف الثورة بأنها انتفاضة شعبية لإزاحة نظام الحكم ترافقها تغييرات في الأوضاع الاجتماعية والسياسية لبلد ما، وقد شهد التاريخ العديد من الثورات بمختلف غاياتها وأهدافها ولعل أسمى وجوه الثورة هو الثورة ضد الاستبداد لإرساء قواعد المواطنة والعدل والمساواة. ولهذه الأخيرة أحكامها فليست كل الثورات هنا متشابهة في التفاصيل ويرجع ذلك لظروف البيئة الاجتماعية والجغرافية والسياسية والتاريخية للبلد الثائر، كذلك لطبيعة نظام الاستبداد نفسه. لذا فنتائج الثورات تأتي مختلفة فبعضها يكتب له النجاح بتحقيق الهدف الأسمى وهو دولة الديمقراطية وبعضها يفضي إلى حكم مستبد آخر كحكم العسكر، وهذا حال معظم ثورات دول أميركا اللاتينية في أواسط القرن الماضي وبعض الثورات قد توأد في مهدها وأقرب مثال نستحضره هنا هو الثورة الخضراء في إيران عام 2009.
الفاعلون في القضية السورية كثر، تجوب طائراتهم سماءها وتحكم جيوشهم أرضها، يتفاوضون ويتصافحون في قصورهم أما في سوريا فيودعون الرسائل لبعضهم
وفي مستهل الحديث عن الثورة السورية لا بد من التأكيد أنها ليست حدثا غريبا أو مشوها في مسار تاريخ سوريا، بل هي استحقاق وفعل جمعي سوري مشروع لاسترداد الوطن والمواطنة من براثن عصابة اغتصبت سوريا منذ أكثر من خمسين عاما. ولكن بعد عشر سنوات على اندلاعها نرى اليوم سوريا وكأن لعنة الجغرافيا السياسية قد خيمت على ثورتها وأحكمت قبضتها على تفاصيل المشهد هناك، حتى دخلت في لوحة سيريالية تعارضت فيها مصالح الفاعلين وتشابكت أهدافهم وتعددت غاياتهم وبات هذا البلد ليس أكثر من صندوق بريد وميدان لاختبار العتاد.
فالفاعلون في القضية السورية كثر، تجوب طائراتهم سماءها وتحكم جيوشهم أرضها، يتفاوضون ويتصافحون في قصورهم أما في سوريا فيودعون الرسائل لبعضهم، رسائل تكتب بالنار دونما اعتبار لسوريا أرضا وشعبا، وقس على ذلك ما يحصل اليوم بين إيران وعدوها الأكبر الولايات المتحدة الأميركية، فأي دعوة للتفاوض أو تعثر لمساراتها سيترجم على الجغرافيا السورية بقصف ومناوشات متبادلة بين قواعدهم ومناطق نفوذهم على الأرض السورية، وقد يعودون للطاولة بعد أن تصل الرسائل ويرتب المشهد من جديد، كذلك السجال بين روسيا وتركيا الصديقتين فيها والعدوتين خارجها من تنبيهات ولعب على الملفات الحرجة تكون أرواح السوريين ومدنهم قربانا لها، ولا يغيب عن المشهد أيضا ما تفعله إسرائيل لمواجهة التمدد الإيراني وميليشياتها في سوريا من قصف بين الحين والآخر لمراكزها وقواعدها على امتداد الجغرافيا السورية.
عشر سنوات من عمر الثورة، تعرض فيها المشهد السوري للكثير من التحولات والتبدلات والمفاجآت حتى باتت سوريا ليست أكثر من صندوق بريد وحقل رماية وجغرافيا ممزقة وشعب تائه
ونبقى في الميدان، ولكن من زاوية جديدة برعت فيها روسيا حليفة النظام فها هو رئيسها فلاديمير بوتين يتشدق متفاخرا بين الحين والآخر بأن جيش بلاده جرّب أحدث الأسلحة التي يمتلكها، وأثبت مواصفاتها الفريدة في عملياته الحربية ضد الإرهابيين حسب زعمه مؤكدا على أهمية الحفاظ على وتيرة إنتاج الأسلحة الحديثة لاستخدامها واختبارها في التدريبات العسكرية خلال السنوات القادمة. أما وزير دفاعه فقد صرح أن روسيا جرّبت 316 نموذج سلاح روسي جديد في سوريا منذ تدخلها عام 2015، وهذا ما يؤكد أن عمليات الجيش الروسي في سوريا تساعده على فحص الأسلحة وتطويرها. ومن المهم بمكان أن نذكر أن مبيعات وأسعار السلاح الروسي ارتفعت في سوق السلاح العالمي، وعقدت روسيا العديد من الصفقات التي ساهمت بدعم الخزينة الروسية بعشرات المليارات من الدولارات، وباتت روسيا الاتحادية ثاني أكبر دولة في العالم بمبيعات الأسلحة، بعد الولايات المتحدة، وهكذا تصبح سوريا ميدانا بمواصفات فنية ممتازة تلائم تجريب العتاد وعرضه للمشترين.
عشر سنوات من عمر الثورة، تعرض فيها المشهد السوري للكثير من التحولات والتبدلات والمفاجآت حتى باتت سوريا ليست أكثر من صندوق بريد وحقل رماية وجغرافيا ممزقة وشعب تائه، لربما يكون هذا أمر في سياقه الطبيعي لثورة في بلد بموقع سوريا يتجاذبه فاعلو السياسة الدولية ونظام فهم اللعبة وفتح الباب لكل راغب شريطة أن يبقى على كرسيه ولو من دون شرعية وسيادة. ولكن يبقى السؤال الأهم والأكثر إلحاحا، متى يخرج هذا البلد من وحله؟ ومتى سيسترد السوريون وطنهم؟ ومتى ستنام ثورتهم منتصرة بعد كل هذه الدماء؟