في حديث مع صديقٍ ينتمي للحاضنة الشعبية الموالية للنظام، بالساحل السوري، في صيف العام الفائت، أخبرني ذاك الصديق، أن "الناشط الموالي"، بشار برهوم، يعبّر عن تناقضات "الشخصية الموالية". فهي غاضبة من النظام بشدة، لكنها تخشى التغيير، ربما، بشدة أكبر.
كان ذاك النقاش على هامش "غضبة" ناشطي الساحل السوري، التي وصلت حينها إلى ذروة غير مسبوقة، طالت شخص رأس النظام وزوجته، بصورة مباشرة.
لكن أصوات شخصيات كـ لمى عبّاس، وأحمد إبراهيم إسماعيل، وأيمن فارس، وكنان وقّاف، اختفت تماماً، وبقي بشار برهوم، وحده. ومن الصعب إرجاع ذلك إلى كون الرجل تعبيراً صادقاً عن الشارع الموالي بالساحل السوري. لكن في الوقت نفسه، يجب الإقرار بأن الرجل يلعب أدواراً مرسومة بدقّة، للتنفيس عن غضب ذاك الشارع، عبر قول ما لا يستطيع الإعلام الموالي الرسمي، وشبه الرسمي، قوله، بهذا الصدد.
وفي هذا السياق، يندرج الهجوم غير المسبوق الذي شنّه بشار برهوم، في الأسابيع الأخيرة، ضد حليفة النظام الأبرز، إيران، بالتزامن مع اشتداد الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد النفوذ الإيراني العسكري في البلاد، وصولاً إلى استهداف القنصلية الإيرانية في قلب العاصمة السورية.
حينما اندلعت "غضبة" ناشطي الساحل عبر وسائل التواصل، في صيف العام الفائت، اندس بشار برهوم في غمارها، وخاض مع الخائضين فيها، فشتم حزب البعث الحاكم، كما شتم أجهزة المخابرات ووصف عناصرها بـ "الأذلاء".
لكن "غضبة" ناشطي الساحل، ارتفعت سقوفها سريعاً، خاصة مع توصيف لمى عبّاس، الناشطة الأبرز يومها، لأسباب التدهور المعيشي في مناطق سيطرة النظام، بثلاثية: الحواجز، وإتاوات "المكتب السرّي"، والاحتكار. مشيرةً بصورة غير مباشرة، لكن واضحة الدلالة تماماً، إلى مسؤولية رأس النظام وزوجته وشقيقه، عن تدهور معيشة السوريين إلى مستويات غير مسبوقة. قبل أن يرفع كنان وقّاف وأيمن فارس، هذا السقف، إلى حدود النيل المباشر من شخص بشار الأسد وزوجته.
يومها، انزوى بشار برهوم بعيداً عن هذه "الغضبة"، واتخذ موقفاً ناقضاً لسقوفها التي تجاوزت "المقبول" في عُرف "الموالين". وخرج بتسجيل اعتبر فيه بشار الأسد، رمزاً لا يجوز النيل منه، قبل أن يعزف على وتر تهديد الحاضنة الموالية، بحربٍ جديدة في "شرق الفرات"، هذه المرة. رافعاً شعار "لا صوت يعلو على صوت الحرب".
في الأسابيع الأخيرة، طرأ تغيّر لافت على خطاب بشار برهوم، إذ شن هجوماً لاذعاً على إيران، واصفاً إياها بـ "العدو".
وبعد أن اعتقلت أجهزة أمن النظام أبرز ناشطي الساحل الموجودين داخل البلاد، استعاد بشار برهوم نبرته السابقة من التصويب على الحكومة ومهاجمتها، باعتبارها المسؤولة عن كل مآسي البلاد ومصائب العباد، وفق المبدأ الشهير للنقد، المسموح به في ظل حكم النظام على مدار أكثر من نصف قرن، وهو أن "الرئيس" جيد، لكن من حوله، سيئون.
وفي الأسابيع الأخيرة، طرأ تغيّر لافت على خطاب بشار برهوم، إذ شن هجوماً لاذعاً على إيران، واصفاً إياها بـ "العدو". بل وصفها بـ "العدو" الأول للسوريين، مقارنة بـ إسرائيل، التي هبط بها إلى المرتبة الثالثة في "بورصة أعداء" سوريا، حسب وصفه. واللافت أكثر، أنه طالب بإخراج "الفرس" من سوريا، دون أن يحمّل مسؤولية إدخالهم لنظام الأسد، بل حمّل تلك المسؤولية لثورة العام 2011، وما تلاها من حراك مسلّح، باعتباره السبب في استجلاب الإيرانيين.
خطاب بشار برهوم تجاوز كل الخطوط الحمراء في سب وشتم الإيراني، بل ووصل إلى حد السخرية من شعاراتهم المتعلّقة بدعم القضية الفلسطينية، معتبراً أن إيران دمّرت سوريا تحت هذه الشعارات، وأنها في طريقها للعمل على تدمير بلدان عربية أخرى، تحت يافطة الشعارات ذاتها.
وبهذا الصدد نذكّر بأن لائحة التهم التي وُجّهت للناشطة لمى عبّاس، حين اعتقالها في أيلول/سبتمبر الفائت، ضمّت "الإساءة للحليف". وكانت لمى عبّاس قد انتقدت إيران وروسيا، واتهمتهما بالمساهمة في تدمير سوريا. وهذا ما يقوله بشار برهوم، اليوم. ورغم خطورة هذه التهمة "الإساءة للحليف"، في عُرف النظام، فإن السبب الرئيس لاعتقال عبّاس، وإرهابها، -بحيث إن صوتها اختفى تماماً عن التداول في وسائل التواصل، حتى بعد أنباء الإفراج عنها، مطلع العام الجاري-، لم يكن "الإساءة للحليف"، بل "الإساءة" لشخص الأسد وزوجته وشقيقه. وهو ذات السبب الذي أدى لاختفاء الناشطين الآخرين، إما تغييباً في السجون، أو ترهيباً بأساليب أخرى.
جميع العاملين في الحقل الإعلامي بالداخل، يعلمون أن "الإساءة للحليف"، خط أحمر.
أما سرّ هجوم بشار برهوم على إيران، وتوقيته، فيرتبط بإرادة القصر الجمهوري بدمشق، وبتوجيه من أجهزة المخابرات. فجميع العاملين في الحقل الإعلامي بالداخل، يعلمون أن "الإساءة للحليف"، خط أحمر، لا يتجرأ أحد بالداخل، على تجاوزه، إلا بتوجيه خاص. وهنا، يختلف تفسير هدف هذا التوجيه. وإن كان يعبّر دون شك، عن امتعاض النظام من تفاقم التوتر الإيراني – الإسرائيلي، على حسابه، وعلى "أرضه". ويعبّر عن امتعاض النظام من ضغوط إيران المكثّفة عليه، للحصول على ديونها عبر امتيازات اقتصادية ضخمة، بحيث أجبرت الأسد على رهن جانبٍ كبير من مقدرات البلد، للإيرانيين. وهو ما عبّر عنه برهوم في إحدى تسجيلاته حينما ألمح لقضية "الديون" والمطالبة باستردادها.
لكن من الصعب قبول ذاك التفسير الذي يقول إن هدف توجيه بشار برهوم نحو النيل من إيران، هو توجيه رسالة من جانب النظام لطهران. فهذه القناة تأثيرها متواضع للغاية. فما تأثير كلام بشار برهوم على الإيرانيين ونفوذهم في سوريا!
يعتقد خبراء غربيون، أن أمثال هذه الأعمال الدرامية المضبوطة مخابراتياً، ساعدت في توسيع هوامش النقاش العام، بحيث شكّلت وحياً لحراك العام 2011.
من جانبنا، نعتقد أن التفسير الأكثر ترجيحاً، هو أن الهدف "تنفيس" غضب الشارع الموالي بالساحل حيال النفوذ الإيراني في مناطق سيطرة النظام، ونتائج هذا النفوذ التي حوّلت البلاد إلى ساحة صراع مباشر إيراني – إسرائيلي، يسقط في سياقه قتلى من الجنود السوريين المنتمين أساساً لتلك البيئة الموالية. ناهيك عن الإنهاك الاقتصادي الذي يتسبب به هذا النفوذ، والذي يمنع دخول استثمارات خليجية في سياق إعادة تأهيل النظام، نظراً لأن المراهنين على "التطبيع" مع النظام، في دول الخليج، بنتظرون ما يدلل على قدرة النظام على الحد من النفوذ الإيراني، قبل الانخراط في إعادة تأهيله، اقتصادياً.
باختصار، بشار برهوم، نظير لـ "بقعة ضوء". ذاك المسلسل الساخر الذي استخدمه النظام يوماً، لـ "التنفيس" عن الشارع السوري، عبر عرض ما يعانيه بجرأة على شاشات التلفزة. لكن، كما يعتقد خبراء غربيون، أن أمثال هذه الأعمال الدرامية المضبوطة مخابراتياً، ساعدت في توسيع هوامش النقاش العام، بحيث شكّلت وحياً لحراك العام 2011، تسلك أجهزة المخابرات التابعة للنظام، اليوم، السلوك نفسه، عبر نموذج "بشار برهوم". وفيما "تنفّس" عن الشارع الموالي، وتقول ما يُقال في ذاك الشارع، علناً، على لسان ذاك "الناشط"، فيما لا تتحمّل مسؤوليته أمام "الحليف" الإيراني، تخاطر في الوقت نفسه، في التسبب بالنتيجة ذاتها، الذي تسببت به الدراما الساخرة في العقد الأول من القرن الحالي، حينما بات السقف المرتفع للانتقاد، مطلباً للجمهور السوري، يصعب إغفاله، قبل أن يصبح، من الصعب، ضبطه، في وقتٍ لاحق.