تتخوَّف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أنْ تمنح حربُ غزة الهمجية، اليمينَ الاحتلاليَّ المتطرِّف الذي يقوده نتنياهو فرصةً لحسم نهائيٍّ للصراع من طرف واحد؛ حسمًا لا يمكن قبولُه على الفلسطينيين، ولا يمكن أن يحقِّق استقرارا وأمنًا، على المدى الطويل.
وأساسُ التعارُض بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو يكمن في رفْض الأخير حلَّ الدولتين، وهذا ما صرّح به، متفاخرًا: أنه نجح في منْع قيام دولة فلسطينية، وكانت إحدى الوسائل المهمة لهذا المنع، استبقاءَ الانقسام بين الضفة الغربية، وسلطة الرئيس محمود عباس، من جهة، وقطاع غزة، وحكومة حركة حماس فيها، من الجهة الأخرى.
وبعد ما يزيد عن خمسة أشهر على هذا التدمير غير المسبوق، في قطاع غزة، يأمل نتنياهو الاستمرار فيه، حتى القضاء على سلطة حماس، لكنه يُواجَه، أميركيًّا، بتقديم إجابات عن مصير القطاع، وكيفية إدارته، أو الجهة التي تديره. وفيما يدرك نتنياهو أنَّ السماح بعودة السلطة الفلسطينية إليه سيضيِّق هامش التملُّص، ويسقط أهمّ الذرائع التي طالما تذرّع بها، بأن عباس ليس مؤهَّلًا لأن يكون طرفًا في سلام نهائي، ما دامت غزة خارجة عن سلطته، فإن نتنياهو يبذل جهده للاستمرار في إعاقة عودة السلطة إلى غزة، بحجة أنها غير قادرة على ضبطها، وأنه لا يريد السماح بتكرار ما حدث معها، حين طردتها حماس عام 2007، وهو بذلك يقلِّل من شأن المساعي الأميركية لإصلاح السلطة، وتجديدها.
وكلُّ ذلك يقع في سياق تصوُّرات اليمين الإسرائيلي المتطرِّف؛ الهادفة إلى فرْض أوضاع دائمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تنبثق من مزاعم توراتية مُسيَّسة، عن أرض إسرائيل، وعن دولة يهودية، دون اعتبار لوجود الفلسطينيين، كشعب، إنما في أحسن الأحوال، كأفراد خاضعين لهذه الدولة التي ليست دولتهم، بأيِّ حال.
يعكس تحذير بلينكن، الصارخ، وفق "أكسيوس" القلقَ المتزايد، داخل إدارة بايدن، من أن استراتيجية إسرائيل في غزة، أو عدم وجودها، يمكن أن تؤدِّي إلى احتلال دائم، وتمرد في القطاع، ومزيد من الإرهاب
ولأن إدارة بايدن تدرك هذا المنعطف الخطير الذي توشك أن يدخل الصراع فيه، فإنها لا تنفكّ تُصدِر التحذيرات من مخاطر استراتيجية على أمن إسرائيل، ومكانتها، في حال مضت حكومتُها الراهنة في هذه الأجندة الأُحادية، من ذلك ما نقله موقع "أكسيوس" الإخباري، عن مصدر مطَّلع قوله: إن وزير الخارجية أنطوني بلينكن حذَّر نتنياهو، ووزراء المجلس الأمني المصغر من أن أمن إسرائيل ومكانتها في العالم "معرَّضان للخطر"، بسبب تداعيات الحرب في غزة. وأضاف المصدر أن بلينكن أبلغ نتنياهو، خلال لقاء في إسرائيل، بأن عليه وضْع خطة «متماسكة» لليوم التالي للحرب، وإلا فإنه «سيسقط في مستنقع غزة، ووفق الموقع حذَّر بلينكن نتنياهو وحكومته الحربية، في اجتماع يوم الجمعة، الفائت، من أنهم "قد لا يدركون ذلك، إلا بعد فوات الأوان"، حسبما قال مصدر مطَّلع على الأمر. و"يعكس تحذير بلينكن، الصارخ، وفق "أكسيوس" القلقَ المتزايد، داخل إدارة بايدن، من أن استراتيجية إسرائيل في غزة، أو عدم وجودها، يمكن أن تؤدِّي إلى احتلال دائم، وتمرد في القطاع، ومزيد من الإرهاب".
فليس الخلاف، بين بايدن ونتنياهو، على إزاحة حماس عن المشهد، أو القضاء على سلطتها في غزة، وفق ما يحاول الأخير أنْ يسوّق؛ من ضرورة دخول جيس الاحتلال إلى رفح؛ للقضاء على بقايا كتائب حماس فيها، بقدر ما ينبع التخوُّف الأميركي من القضاء على أيِّ أمل في حلٍّ سياسي يراعي، ولو بالحدِّ الأدنى المعقول، وجودَ الفلسطينيين، وحياتهم، وآمالهم..
فالقضاء على أيِّ أفق لحلٍّ سياسيٍّ معناه أيضًا نزْعُ أسباب الحياة من السلطة الفلسطينية المشروع الذي رعته واشنطن، ولا تزال، وتحويلها إلى مجرَّد جهاز داخليٍّ ينسجم مع رؤية دولة الاحتلال، في أكثر نسخها تطرُّفًا، وإقصاء.
ويتأكَّد ذلك بنظرة موازية إلى ما يفرضه الاحتلال في الضفة الغربية، ذلك بملاحظة تسارُع وتيرة الاحتلال والتهويد والاستيطان، ومِن أجدَد المؤشِّرات على ذلك مصادرة مساحات واسعة من أراضي منطقة الأغوار؛ إذ أعلن وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، الاستيلاء على ٨٠٠٠ دونم (3.8 ميل مربع) من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، لتمثل هذه الخطوة أكبر مصادرة للأراضي، من قبل الحكومة الإسرائيلية، منذ اتفاقيات أوسلو، عام 1993، وفقًا لـ"منظمة السلام الآن" الإسرائيلية.
وقد تدلُّ محاولات إدارة بايدن منْعَ إطلاق العِنان للمستوطنين في الضفة الغربية، ولو بعقوبات أقرب إلى الرمزية لبعض البارزين منهم، على انتباهها للمخاطر المحدقة بمصير الضفة الغربية، على يد حكومة نتنياهو المشتملة، على الأقل، على وزيرين يتماهيان، تمامًا، مع المستوطنين وتطلعاتهم في فرض السيادة الاحتلالية على الضفة الغربية، وإغلاق الأبواب أمام أيِّ فرص لدولة فلسطينية، ولو منزوعة السلاح، ومشكوكة السيادة.
هنا يتضح الفرق بين نتنياهو، غير المبرّأ من أغراض شخصية، تدور حول إنقاذ مستقبله السياسي، ولو بالتشبُّث حدَّ التماهي مع أمثال بن غفير وسموترتيتش، بعقليَّتهما الاستيطانية، المعزولة عن اعتبارات العالم، وهيئاته الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، ومرجعياتها المعلنة، عن حقوق الإنسان، وصْون حياة المدنيِّين، وقتَ الحرب، وعن القرارات الدولية المتعلقة بالصراع، وبين إدارة بايدن؛ الناظرة إلى ما هو أوسع من ذلك، وأبعَد، والمتخوِّفة من تداعيات أزمة إنسانية غير مسبوقة؛ بفظاعتها وانفلاتها، على حظوظه الانتخابية، وعلى صِدقيَّة الولايات المتحدة، في العالم، وتآكلها المستمر، والمحرج.
وبتتبُّع مسار المواقف الأميركية، والتصريحات الصادرة من أقطابها، كما، مثلًا، تصريحات زعيم الأغلبية الديمقراطية، تشاك شومر، حين دعا إلى انتخابات إسرائيلية جديدة؛ لاستبدال نتنياهو، بعد أنْ "ضلَّ طريقه"، وقوله: إن "مستقبل إسرائيل قد ينتهي ما لم تحظَ بدعم أميركي"، معربًا في الوقت ذاته عن خشيته من أنْ تصبح بقيادة نتنياهو منبوذةً عالميًّا، حتى في الولايات المتحدة، ومؤكدًا على ضرورة حلِّ الدولتين، وأن رفْض نتنياهو له خطأ فادح.
نلحظ تصاعُدًا في اللهجة، وإنضاجًا لتحوُّلات محتمَلة، في تعاطي إدارة بايدن مع حكومة نتنياهو؛ نحو كبْحِ جموحِها، وتخليصها من ضِيق أفقها
بالإضافة لتحذيرات مشرِّعين أميركيين ديمقراطيين، وجميعهم يتمتَّعون بخبرة كبيرة في مجال السياسة الخارجية والأمن القومي، الرئيسَ الأميركي؛ من أنَّ القيود التي تفرضها حكومةُ نتنياهو على توصيل المساعدات الإنسانية إلى غزة، تجعل إسرائيل "غير مؤهَّلة لتلقِّي الأسلحة الأميركية المستمرة"، ويجب عليهم تصحيح الوضع، قبل أن يشكِّل "سابقة غير مقبولة".
بتتبُّع مسار تلك التصريحات، نلحظ تصاعُدًا في اللهجة، وإنضاجًا لتحوُّلات محتمَلة، في تعاطي إدارة بايدن مع حكومة نتنياهو؛ نحو كبْحِ جموحِها، وتخليصها من ضِيق أفقها.
صحيحٌ، أنَّ هذه المواقف الأميركية لم ترتقِ، بعد، إلى أفعال؛ من قبيل رفْع الغطاء الدولي عن حكومة نتنياهو، أو تقليص الدعم العسكري، أو المالي لها، ولكنها، وهي تصل إلى مستوى الخلاف العلنيّ، الحادّ، تؤشِّرُ إلى تبايُنٍ حقيقيٍّ وجدّيٍّ في أمور جوهرية.