بايدن بين دعوة نتنياهو والاتفاق مع إيران

بعد أن أطال الرئيس الأميركي جو بايدن المدَّة عن المعتاد، دون أنْ يدعو رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بعد فوزه بالحكم، (وفي أعقاب تجاهله طوال ثمانية أشهر) إلى لقائه في البيت الأبيض، كما جرت العادة، عاد، وقرَّر دعوته، برغم أن المدعو لم يغادر الأسباب، أو الموانع، فنتنياهو، وَفْق منتقدي دعوة بايدن؛ من نُوّاب الحزب الديمقراطي: لم يستجب لطلبات الإدارة الأميركية في أيِّ موضوع، بل يواصل تطبيق خطة الإصلاح القضائي التي تهدِّد الديمقراطية، ويقود حكومة متطرِّفة تهدِّد السلام في الشرق الأوسط، ويسكت على وزراء في حكومته يشجِّعون إرهاب المستوطنين، في المناطق الفلسطينية المحتلة، ويدير سياسة نفاق لخصوم الولايات المتحدة في العالم.

لكن السؤال: ما حجم هذه الخطوة؛ دعوة نتنياهو إلى لقاء مع بادين، إذا ما قِيست بالاتفاق الأميركي الأخير مع إيران؟ وهو الاتفاق الذي يقضي بإطلاق سراح سجناء والإفراج عن أموال إيرانية مجمَّدة بقيمة 6 مليارات دولار، في كوريا الجنوبية.

لا نحتاج إلى تدقيق كثير، لندرك أين هي أولويات السياسة الأميركية، في هذه المرحلة، فأميركا، وبغضِّ النظر عن نوع الإدارة الحاكمة، بدأت منذ سنوات، تولي أكثر اهتمامها، لمواجهة صعود الصين، وهذه الأيام، أُضيف إليها إفشالُ الأهداف الروسية في أوكرانيا. حتى إن انسحابها من أفغانستان، وهو محلُّ إجماع حزبي، يندرج في هذه الاستراتيجية العالمية. ولذلك هي أبْعَدُ ما تكون عن الإسهام في تفجُّر أزمات، أو حروب واسعة، في منطقتنا، حتى إننا قد لا نبالغ، إنْ قلنا إن التقارُب السعودي الإيراني ينسجم مع هذا التوجُّه، بصفة عامة. 

والحاصل أنّ ثمَّة مسارًا دوليًّا مفتوحًا على الصراع، قائم في أوكرانيا مع روسيا، وثمة صراع، قد ينزلق، في حال سوء التقدير، أو انفلات ردّات الفعل، إلى نزاع مسلَّح مع الصين.

أمام هذه التحديات الاستراتيجية لأميركا، كدولة ترتخي قبضتُها العالمية، نسبيًّا، وأمام شواغل السباق إلى البيت الأبيض أمام دونالد ترامب؛ المنافس الذي لا يمكن الاستهانة به، مالَ بادين إلى إرخاء الوَتَر المشدود مع نتنياهو

وأما داخليًّا، ففي صُلْب انشغالات بايدن وأنصاره في معركة التنافُس على الرئاسة، والمتربِّصون بمواقفه وأدائه، لاقتناص أيِّ نقطة ضعف، أو سوء تعاطٍ؛ لاستثماره ضدَّه، ولذلك تجنّب بايدن المُضيَّ في مسار التفاوض المفضي إلى إبرام اتفاق مع إيران بخصوص مشروعها النووي؛ تحسُّبًا من منْحِ خصومه في الحزب الجمهوري ورقةً، يوظِّفونها ضدّه، ونظرًا لوجود معارضة في الكونغرس.

أمام هذه التحديات الاستراتيجية لأميركا، كدولة ترتخي قبضتُها العالمية، نسبيًّا، وأمام شواغل السباق إلى البيت الأبيض أمام دونالد ترامب؛ المنافس الذي لا يمكن الاستهانة به، مالَ بادين إلى إرخاء الوَتَر المشدود مع نتنياهو؛ إذ من الأسباب التي تقال إنَّ بايدن لا يريد، بترْكِه دعوة نتنياهو إلى اللقاء، دفْعَ الأخير إلى مواقف أسوأ؛ من قبيل مزيد من الانسياق مع الاتجاهات الأكثر تطرُّفًا في حكومته، أو إلى تعزيز تعاونه مع قوى عالمية منافِسة، أهمُّها الصين وروسيا.

ومع قرار بايدن دعوة نتنياهو للقائه، (وقد لا يكون اللقاء في البيت الأبيض، ولهذا دلالته الرمزية)، فإن هذه الدعوة، أو اللقاء المرتقَب لا ينهي بالضرورة التوجُّهات غير الودّية مع حكومة نتنياهو، ولا سيما مع تكاثُر المعطيات التي تزيد الصعوبات أمام الدفاع عن سياسات نتنياهو، وحكومته، في أوساط سياسية أميركية، نخبوية، وليست فقط في أوساط مثقَّفين، أو حركات طلابية شبابية يسارية، أو مؤسسات أكَّاديمية مرموقة، مثلًا، (ومِن آخِر المؤشِّرات في هذا النطاق، تصويتُ الجمعية الأنثروبولوجية الأميركية، ذات المكانة الرفيعة، المكوَّنة من 12 ألف عضو، بنسبة 71% لصالح الدعوة الفلسطينية لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية المتواطئة مع جرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين). 

وجزء مهمٌّ من تلك الأوساط الداعية إلى إعادة النظر في طريقة تعامل أميركا مع دولة الاحتلال، والدعوة الآخذة في التفاعل، وربما التبلور، على مستوى الخطاب العام، وهي أنه يجب وقْف المعونة الأميركية غير المشروطة التي تحصل عليها إسرائيل بقيمة 3.8 مليارات دولار سنويًّا، إذ "طرح الكاتب الأميركي نيكولاس كريستوف هذا الموضوع مؤخَّرًا في مقال بصحيفة «نيويورك تايمز»، مستشهدًا بمواقف مفكِّرين محترمين لهم سجلٌّ قوي في صداقة إسرائيل، وبينهم السفيران الأميركيان السابقان لدى إسرائيل، دانيال كيرتز ومارتن إنديك. وهناك آخرون لهم نفس الموقف والخلفية، مثل ماكس بوت الكاتب في صحيفة «واشنطن بوست» يتحدَّثون عن الفكرة نفسها".

لكن لقاء بايدن بنتنياهو، في هذا التوقيت، بعد الاتفاق الأميركي الإيراني الأخير، وهو ما يُعَدُّ تنازلًا، أميركيًّا، أو تسامُحًا مع إيران، وقد بلغ مشروعها النووي عتبة تصنيع القنبلة النووية، بعد أن رفعت مستوى تخصيب اليورانيوم، هذا اللقاء سيصبُّ في كبْح مسار التوتُّر في العلاقات بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، والأخير ملزَمٌ بإظهار مواقف متشدِّدة، أمام الرأي العام عنده، تُجاه إيران ومشروعها النووي الذي يتصدّر وفق تقديرات المواقف، الأخطار التي تهدِّد أمن إسرائيل، مع صعوبة وخطورة الإقدام على الخيار العسكري، خصوصًا دون توفُّر غطاء أميركي، إلا من أعمال تستهدف القدرات النووية، لا تصل إلى مستوى الحرب، وقد تعيق بعض تطوُّره، لكنها لا تقوى على وقفه، أو إجهاضه. 

وفي ضوء اتِّساع المسافة بين إسرائيل والولايات المتحدة، على خلفية تشكيلة الحكومة الإسرائيلية الحالية، وسطوة المتطرِّفين الحريديم فيها؛ ما يعني خفوت السمة الديمقراطية فيها، أمْكَنَ لبايدن أن يفعِّل فكرةَ "حماية إسرائيل من نفسها".

قد يرى بايدن أنه ليس بحاجة إلى أكثر من خطوات استرضائية رمزية، ومحدودة، (مثل الموافقة على ضمّ إسرائيل لبرنامج الإعفاء من تأشيرة الدخول، والأخرى التوسُّط لتوسيع اتفاقات إبراهيم)؛ في سبيل الظهور بمظهر التوازن

ودولة الاحتلال، وهي تجنح إلى هذه التحوُّلات الدينية، لا تفقد تأييد أوساط أميركية، فقط، وإنما تفقد غيرَ قليلٍ من التأييد العالمي، ولا سيما الأوروبي، وحتى أستراليا.  

هذه التغيُّرات في إسرائيل لم تصبّ، ولو بطريقة غير مباشرة، في توفير أجواء مساعِدة، لصالح استعطاف الرأي العام الأميركي، كما سابقًا، لصالح مزيد من التشدُّد الأميركي تجاه إيران.

لذلك قد يرى بايدن أنه ليس بحاجة إلى أكثر من خطوات استرضائية رمزية، ومحدودة، (مثل الموافقة على ضمّ إسرائيل لبرنامج الإعفاء من تأشيرة الدخول، والأخرى التوسُّط لتوسيع اتفاقات إبراهيم)؛ في سبيل الظهور بمظهر التوازن، وكنوع من التعويض، أو التلطيف، مقابل تلك الليونة الفعلية في التعامل مع إيران، هذا مقابل نتنياهو؛ الخصم الذي لا يتوانى عن استغلال الظرف، لتحصين نفسه، من مزيد من الضغوط الأميركية، على صعيد أزمة "الإصلاحات القضائية"، أو على صعيد التمادي غير المسبوق في السياسات الاحتلالية والاستيطانية والتهويدية.

ولذلك سارع نتنياهو إلى توجيه انتقادٍ حادّ إلى الاتفاق، حين قال: إن اتفاق تبادُل السجناء بين الولايات المتحدة وإيران لن يوقف برنامج طهران النووي، وليس من شأنه سوى المساعدة في تمويل وكلاء إيران «الإرهابيين».

هذا، وقد يكون الموقف الحقيقي لساسةٍ إسرائيليين، ونتنياهو ليس بعيدًا عنهم، هو جَنْيُ أكبر قدرٍ من المكاسب الاستراتيجية، على مستوى الصراع مع الفلسطينيين، وفي الإقليم؛ مقابل امتناعهم عن تشويش مسار العلاقات الأميركية الإيرانية، (بضربة إسرائيلية عسكرية لمشروع إيران النووي)، فهم إنْ شعروا أنَّ الجهود الأميركية لتحجيم المشروع النووي الإيراني غير مُرْضِية، فليس أقل من حشد أكبر قدر من المواقف الأميركية؛ ثمنًا لذلك.