معبرُ باب الهوى، آخرُ معبرٍ تدخلُ من خلاله المساعدات الإنسانية إلى ملايين السوريين المهجّرين قسراً من معظم المحافظات السورية في الوسط والشرق والجنوب.
بعد خذلان دولي رافق جريمةَ اقتلاع شعب من أرضه، ألا تفرضُ أدنى درجات الإنسانية أن تكون المساعدات الغذائية والدوائية، ملفّاً فوق تفاوضيّ؟ بأيّ منطق غدا هذا الحق البديهي سلاحاً يستخدمه الروس، حلفاء نظام الأسد، ضد المهجرين الضحايا.
في التاسع من شهر كانون الثاني من العام 2020، انتهت المهلة الزمنية الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2165 لعام 2014، والذي نص على السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا.
في العاشر من كانون الثاني عام 2020 قرّر مجلس الأمن تمديد العمل بالقرار 2165، الخاص بآلية دخول المساعدات الإنسانية إلى سوريا، لكن مدة ولاية القرار انخفضت لستة أشهر، تنتهي في تموز من نفس العام، بالإضافة إلى تخفيض عدد المعابر لاثنين بعد أن كانت أربعة بحسب القرار المنتهي.
لتبدأ بعدئذٍ بدعة التمديد القصير الولاية، جاعلةً من قوت الضحايا ودوائهم ورقةً تفاوضيةً بيد روسيا شريكةِ النظام بارتكاب جرائم بحق الشعب السوري، خصوصاً بعد دخول القوات الروسية إلى سوريا عام 2015، كحليفٍ لنظام الأسد في حربه على الشعب السوري.
من خلال سياسة الحصار والتجويع الممنهج، سيطر نظام الأسد وحلفاؤه الروس، على معظم المناطق التي خرج أهلها مطالبين بحريتهم، دافعاً بالملايين من سكّان هذه المناطق نحو الشمال السوري
من خلال سياسة الحصار والتجويع الممنهج، سيطر نظام الأسد وحلفاؤه الروس، على معظم المناطق التي خرج أهلها مطالبين بحريتهم، دافعاً بالملايين من سكّان هذه المناطق نحو الشمال السوري، ليُستخدم بعد ذلك الجوعُ ذاتُه، لمنع هؤلاء المهجّرين من التفكير بمعركة استرداد بلداتهم وأراضيهم.
ليست هذه الرؤية نتاج تحليلات صادرة عن مراكز أبحاث دولية، بل هي قناعة، تغدو بمرور السنوات أكثر رسوخاً، لدى شريحة واسعة من السوريين المحاصرين شمال البلاد.
يحفل التاريخ البشريّ بالكثير من الأمثلة التي تؤكّدُ وجاهة ما يعتقده السوريون، وما وصلوا إليه من قناعات، حين سُئل الرئيس المصري "السادات" عن موعد معركة استرداد الأرض، أجاب بعبارة مثيرة للجدل: "اسألوا نوال"، في إشارةٍ منه للواء "نوال الشافعي، رئيس هيئة الإمداد والتموين في القوات المسلحة المصرية".
في تموز من العام 2021، عاد رهاب المساعدات ومعبرها، ليلقي بظلاله القاتمة على ملايين السوريين المحاصرين حقيقةً لا مجازاً، دون أدنى مراعاة لمشاعر أربعة ملايين إنسان، شمالي وشمال غربي سوريا، معظمهم ممن فقدوا بيوتهم وأراضيهم وأرزاقهم، ويقطن نصفهم في مخيمات بائسة، فمتى سيجتمع مجلس الأمن لمناقشة أسباب المأساة، بدلاً من إغراق الضحايا في نتائجها؟
في الفقرة الثانية عشرة من القرار الأممي 2254 لعام 2015، وردت مسألة إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا، وقد سبقتها فقرات وبنود كثيرة، تتحدث عن عملية انتقال سياسي، يمتلك السوريون زمامها، بما يضمن تحقيق التطلعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ في 30 حزيران لعام 2012، وقبل فقرة المساعدات الإنسانية.
نقرأ أيضاً بنداً يتحدث عن ضمان عودةٍ طوعيةٍ آمنةٍ للمهجرين داخلياً وخارجياً. وفي تضاعيف القرار ذاته، نقرأ عن إلزام كل الأطراف المتصارعة، بإطلاق سراح معتقلي الرأي والمغيبين قسراً.
يتساءل السوريون عن أحد عشر بنداً تم تجاوزها، عن أسباب ودواعي هذا التجاوز يتساءلون بعد ذلك، فهل يجانبون الصواب حين يعتبرون الأمر سياسةً ممنهجةً، بغاية تقزيم طموحاتهم المشروعة، وتطلعاتهم المحقة، في العودة لمدنهم وبيوتهم وأرزاقهم، كأنها عملية عقاب جماعي تشترك فيها كل القوى الدولية الفاعلة، لا لذنبٍ اقترفوه سوى حلمهم بديمقراطيةٍ، تزعم ذات القوى الدولية تبنيها، بل وتصديها لمهمة نشرها في العالم.
معركة الرجل في سبيل لقمة أطفاله، أعلى رتبةً في سلّم الأولويات من معارك التحرير، أيا كانت قدسية هذا التحرير، ربما يغضُّ الطرف عن احتمال موت أسرته من جراء قصف الطيران، لأنه معطى، رغم قسوته يبقى احتمالاً، أما بقاؤهم بلا طعام في منطقة محاصرة فهو موت محتّم.
بإمكاننا استبدال المواقع بين المقدمات والنتائج في مثل هذه القضايا، لنقول بأن الشعب حين يبلغُ في قوته الكفاف، سينتقل لمرحلة استرداد بقية الحقوق، سواء من سلطة مستبدة أم غزاة خارجيين.
قبل عدة أيام اتخذ مجلس الأمن قراراً، يتمُّ بموجبه تمديد آلية دخول المساعدات الإنسانية إلى سوريا، عبر المعبر ذاته، لم يصدر القرار بالتمديد، إلا بعد مخاضات عسيرة، شهدت استخدام روسيا حق النقض"الفيتو" للمرة السادسة عشرة، ولم توافق روسيا إلا حين فرضت التعديلات التي تحقق مصالحها، أُغلق المعبرُ لأيام قليلة، هناك من سكنهم الرعب، وهم الشرائح الأكثرُ ضعفاً، لكنّ المشهد لم يكن حكراً على المستضعفين.
هل سيقتنع المتصارعون في مجلس الأمن، حين يعلمون بأنّ التغيير حتمية لا تعترف بالمعابر وحراسها، وأنّ كثيراً من السوريين تمنوا ألا يتوافق أعضاء المجلس، ربما كان حريّاً بمجلس الأمن التأمّلُ عميقاً بكلمات "الشغري" موفد السوريين الضحايا، وشكل تفاعل الشعب مع كلمة ممثله الحقيقي، لقد رأوه بطلاً واعتبروا شتائمه سلوكاً متحضّراً، فما الضير بأن يخرجَ المظلومُ عن طوره مرةً واحدة، بل إنهم تساءلوا عن مدى تأخرهم في إطلاق صرخةٍ قد تُسمع الصمّ، لم يبالوا بتبعات غضب المجلس المحتملة، لعل الضحايا يريدون أن يلامس ظهرهم الجدار الأخير.
لم يعد لدى السوريين أدنى شكّ، بأنّ مسرحية المعبر والمساعدات ستستمرُّ لضمان بقاء طموحاتهم ضمن حيز المتطلبات المعيشية والصحية فقط
نعم لم يعد لدى السوريين أدنى شكّ، بأنّ مسرحية المعبر والمساعدات ستستمرُّ لضمان بقاء طموحاتهم ضمن حيز المتطلبات المعيشية والصحية فقط.
في كتابه «عن الحرب» يقول المؤرخ العسكري والاستراتيجي الألماني كارل فون كلاوزفيتس: "في معركة عض الأصابع، هناك من يصرخ أولاً، والجهة التي ينهار عمود اقتصادها أولاً، ستكون الأسرع في تقديم التنازلات، على طاولة المفاوضات".
في ظل هذه المعطيات الظالمة والمجحفة، لا يتوقعُ المرءُ إلا مزيداً من الأجزاء المستنسخة، من هذه المسرحية الدامية، إلا إن أعاد السوريون قراءة المشهد مرةً أخرى.
دون أي إفراطٍ في الأمل أستمعُ إلى تساؤلات السوريين الراهنة، في شوارع إدلب والباب واعزاز وجرابلس، تساؤلات توحي بأنهم يفكرون جدياً برفض دور الكومبارس المتسول، إذ لم يحقق لهم النظرُ شمالاً إلا الضياع. في جلساتهم اليوم يتحدثون مجدداً عن الجنوب، حيث عاصمتهم الحلم "دمشق"، حيث سهولهم الممتدة من الغاب حتى حوران، وشرقاً حيث فراتٍ تكفي غلال ضفافه لقلب صمام المعبر بالاتجاه المعاكس.