انحياز العقل الغربي والكشوفات الغزاوية

المرآة الغزاوية واضحة ومضيئة، كاشفة وحادة، بحيث إنها أعادت تنبيهنا إلى أسئلة كثيرة، وكذلك أعادت تذكيرنا بالكثير مما كنا نحسب أننا تجاوزناه، أو تجاوزه العقل الغربي، أو دخل في ما يسمى "مما مضى"، وبات التحيز ونظرية المؤامرة حاضرة فيما نراه ونقرؤه، غير أن نظرية المؤامرة هذه المرة ليس بصفتها لعبة أنظمة أو سبباً للكسل، ومن هذه الكشوفات التي يدخل معظمها في باب تأكيد المؤكد:

أولاً: انحياز العقل الغربي، فذلك العقل التحليلي التفصيلي التوثيقي الهادئ، نسي سماته تلك، وتبنى روايات مرسلة حول ما حدث في غاية التحيز وتكريس الصورة النمطية والتسرع والتعميم والظلم لشريحة كبيرة من البشر، لنجد لاحقاً أن هذا التبني السريع لأطروحات الطرف الإسرائيلي كان الهدف منه اتخاذ قرارات وتهييج شعبي شعبوي، بل إن رئيس دولة تتابع أقمارها الصناعية ومخبروها "دبيب النملة" في العالم بنى قراراته وتصريحاته على كلام في الهواء الطلق وفيما كان يبكي على ضحايا فريق كان قلبه أقسى من القساوة على ضحايا فريق آخر!

أما بشأن حرية التعبير وحق التظاهر فقد وضعت الدساتير وحقوق الإنسان جانباً في دول عدة (خاصة ألمانيا وفرنسا) وهما القوتان الأكثر تأثيراً في أوروبا، بحجة أن إسرائيل خط أحمر وأن أمنها من أمن أميركا وأوروبا، لذلك وجدنا في مظاهرة أمستردام فرنسيين وألمان جاؤوا من هناك ليتظاهروا لأنهم لم يستطيعوا فعل ذلك في بلدانهم، في مشهد يذكر بالمظاهرات السورية وكيف أن أبناء محافظة ما أو حي ما كانوا يذهبون إلى حي آخر أو مدينة أخرى لأن حيّز الحركة وهامش الحرية أوسع، نعم يحدث ذلك في أوروبا حقوق الإنسان!!!

كل أولئك البشر الذين قتلوا في سوريا هم صنف آخر، لسبب بسيط أنه ليس لديهم حمولة "الضحية اليهودية" في العقل الغربي، كشفت تلك الأحداث أن ما تجده في يوميات الأوروبيين من تعاطف مع الفلسطينيين والسوريين وشعور بمأساتهم لا يساوي عشرة بالمئة من شعورهم تجاه الإسرائيليين كضحايا!

لماذا يكرهنا أولئك الغربيون في لا وعيهم؟ لماذا لا يستطيعون مغادرة تلك الصورة النمطية في أننا قتلة ومتطرفون؟ لماذا يستحلون دماءنا وأرواح ضحايانا؟ لماذا يهون عليهم صراخ نسائنا ورعب أطفالنا وخوفنا العميق؟

وضّحت الأحداث الغزاوية أن صاحب القرار في العالم حتى اللحظة هو المزاج الأميركي، الذي يسوّق ما يريد ويفعل ما يريد ويحرك الأساطيل بأسرع وقت

أعاد ذلك التلقي الغربي للحدث الغزاوي الحديث عن مفهوم الانتقام في العقل الغربي، وهل يستطيع ذلك العقل تجاوز الصور النمطية عن الآخر؟ ومن هو صاحب القرار فيه؟ ما هي الشبكات العميقة الحاكمة في تلك البلدان بحيث نجد تلك الاستجابة السريعة وتقديم المساعدات لإسرائيل والتسابق لزيارتها وإبداء التضامن معها؟ ولماذا يصدقون رواية "الضحية الإسرائيلية" دون أي صور أو دلائل أو توثيق، وفي الوقت نفسه يطلبون التحقيقات الموسعة والهادئة في قصف مستشفى مثلاً؟ هل هذا العقل عقل موضوعي أم عقل متحيز؟ وهل علينا كمهتمين بالشأن العام وباحثين أن نستسلم لقبول فكرة العقل الأوروبي المؤامراتي والذي لا يريد الخير لمنطقتنا، وأن اللوبي اليهودي هو الذي يحرك السياسة الغربية؟

ثانياً: وضّحت الأحداث الغزاوية أن صاحب القرار في العالم حتى اللحظة هو المزاج الأميركي، الذي يسوّق ما يريد ويفعل ما يريد ويحرك الأساطيل بأسرع وقت، وأن القوى العالمية الأخرى من مثل الصين ليست بوارد الاهتمام بقضايا الآخرين أو الدفاع عن حقوق الإنسان أو الضحايا في العالم سوى بالتصريحات، وأن روسيا بوتين قد أغْرِقت بالمستنقع الأوكراني، وأنه في ساعة الجد ستقف جانباً، خاصة إذا ما تعلق الأمر بإسرائيل، وأن المساحة التي أعطيت لها في سوريا برضا أميركي وتوافق معها، أما لو قررت أميركا غير ذلك فإنها ستفعله، دون استشارتها!

وكشف الحدث الغزاوي أن إسرائيل بالنسبة للغربيين مثال ونموذج، وأداة، بعيداً عن فكرة الضحية ومفهوم المؤامرة الغربية التي كشفت عن ذاتها بكل وضوح ودون أقنعة: النموذج المرحب به هو إسرائيل وهي مدخل تتواصل معنا أو الرضا عنكم، أيتها الدول المحيطة بها، سيقفز كثيرون: كنا نعرف ذلك، هنا لا نتحدث عن معرفة كشفية يعرفها عدد من "المحللين السياسيين الجهابذة" بل عن تصريحات على ألسنة الساسة الغربيين!

ثالثاً: تتاجر القوى الإقليمية بالقضايا العربية والإسلامية، وليس العرب والمسلمون أكثر من سلعة في نظر الإيرانيين في ملف التفاوض مع الأقوياء، وأصحاب القرار العالمي في إطار تحقيق المشروع الفارسي، ويبدو أن شيطنة العرب عامة والمسلمين السُنة خاصة هدف يجري في الدم الإيراني ويحرصون على تصدير فكرة "المسلم السني الإرهابي"، لسببين: شد عضد الشيعة حولها عبر النبش التاريخي القذر في خلافات باتت مضحكة نتيجة هشاشتها وقدمها، وتخويف الغرب من السُنة.

رابعاً: انكشاف أوراق التنظيمات التجارية المغلفة بغطاء إيديولوجي من حزب الله وصولاً إلى عدد من التنظيمات الفلسطينية إلى الحشد الشعبي، وهذه المرة لعامة الناس فلم تعد تنطلي أحاييلها عليهم، وما باعته من كذب ووهم لم يعد يصرف في سوق التسويغ والمماطلة، وبات الجمهور العربي مقتنعاً أنها تسلفن حضورها بالقضايا وما هي إلا أدوات عند مشغلها الإيراني.

 وصار واضحاً أن من يلتحق بها لم تعد تشغله قضية أو فكرة، بل مصلحة!

لا عيب في ذلك في سوق الارتزاق، فهي ليست أفضل من "بلاك ووتر أو فاغنر"، شرط عدم التلفيق، إذ يمكن أن يعمل الإنسان مرتزقاً، من حقنا ألا نوافقه أو نستهين به أو نعده مهدور الكرامة!

لكن ليس من سبب تسويغي للدخول في تلك المنظمات أن يكون خلفها قضايا كبرى!

وقد تحولت تلك المنظمات والأحزاب إلى أدوات ارتزاقية وخدمية عند من يمولها، ويقدم لها الرعاية من مثل نظام الأسد وإيران، أو أخوهم الذي علمهم السحر "حزب الله"، وإلا ما الذي يجعل لواء القدس يصول في سوريا ويجول فيما يباد قسم من الشعب الفلسطيني ولا يخطر ببال "فدائي" واحد من فدائييه بإطلاق رصاصة نحو إسرائيل!

خامساً: بات العالم العربي يعيش دون شعارات، ودون أحلام كبيرة في التحرر واستعادة الحقوق دفعة واحدة، فالحكومات مخصية، والشعوب تضع حجة المحافظة على الأمن والأمان وطاعة ولي الأمر في المقدمة! ذهب دور الدول العربية المركزية المؤثرة "مصر والعراق وسوريا" برمزيتها، ضيعها قادتها السابقون حافظ الأسد وصدام حسين وحسني مبارك ومعمر القذافي بخطاباتهم وشعاراتهم وما ورثوه لشعوبها.

تجاوز ما حدث الكشف والانكشاف وصولاً إلى العري والتعرية بحيث إنك تتساءل هل هذه الشعوب هي ذاتها تلك الشعوب التي مشت مع موجة الربيع العربي، أم أنها تعيش مرحلة انكسار بعد موجة الربيع العربي وقد تتفينق ثانية كما تقول دروس التاريخ؟

أما الحكام الحاليون فتشغلهم كراسيهم فحسب، حتى الشعارات استكثروها على شعوبهم! ولم يفوتوا الفرصة لإعطاء الدروس لشعوبهم بهدف "ضبعها".

والدول الأخرى الناشئة كقوة اقتصادية ريعية عربياً؛ بات يحكمها شباب تكنوقراط، دون حمولة إيديولوجية أو إنسانية، أو عروبية، يمشون مع ما يحدث في العالم من حالة منفعية دون اعتبارات أخلاقية كثيرة!

حجمهم ليس أكبر من خطوط النفط، بل إن العالم أوجد بدائل عن النفط أو عن مركزية إنتاجه، ومفاهيم قطع النفط تجاوزها الزمن، لأن مفهوم القطيعة والقطع باتت من الماضي!

تجاوز ما حدث الكشف والانكشاف وصولاً إلى العري والتعرية بحيث إنك تتساءل هل هذه الشعوب هي ذاتها تلك الشعوب التي مشت مع موجة الربيع العربي، أم أنها تعيش مرحلة انكسار بعد موجة الربيع العربي وقد تتفينق ثانية كما تقول دروس التاريخ؟

سادساً: كسر اليقين الفردي والجماعي عبر ما يحدث في غزة من عدوان من المحتل الإسرائيلي على أصحاب الأرض، إذ جعلنا نعيد قراءة أنفسنا مرة جديدة بعد ما مر في العالم العربي من أحداث في السنوات الأخيرة، وكذلك بعد أن تعرفنا إلى العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، إضافة إلى التعرف الواقعي حيث عشرات آلاف اللاجئين يعيشون في أوروبا اليوم وقد غدوا مواطنين أوروبيين.

ما الذي بقي منا ومن قناعاتنا القديمة وما الذي تغير وما الذي لم يتغير؟ كيف يدفعك الإيمان بقضية ما إلى التضحية بروحك؟ وكيف أن صاحب القضية أو الحق لن يصمت؟

والسؤال الذي لا توجد إجابة عنه: لماذا لا يلجأ العقل الغربي والإسرائيلي إلى حل الدولتين مثلاً كي يغلق هذا الملف مثلاً؟ أهو التعويل على النسيان؟ أم كون ذلك الملف لا يزال قابلاً للاستثمار وبيع الأسلحة وعصا يهشُّ بها على أغنام الحكام؟