يواجه الحراك الشعبي الثوري في مدينة السويداء منذ انطلاقته في شهر أيار الماضي تحدّيات عديدة، منها ما هو معروف بل حتمي الحدوث، ونعني ما يمكن أن يمارسه النظام الحاكم لمواجهة انتفاضة السويداء بغية محاصرتها والحدّ من اتّساعها وعدم تحوّلها إلى عامة في مدن وبلدات أخرى داخل البلاد السورية، وبالفعل حاولت سلطات الأسد - وعبر أكثر من مسعى - فصلَ ما يجري في السويداء عن محيطه الجغرافي أولاً وعن سياقه الثوري ثانياً، سواءٌ من خلال استثمار الأسد للقتال الذي نشب في دير الزور في شهر آب الماضي بين قوات قسد وبعض العشائر العربية، ومن ثم من خلال افتعال نظام الأسد لعملية الكلية الحربية بحمص والتي اتخذها كذريعة للهجوم على إدلب واستمراره حتى اليوم، ثم جاءت الحرب على غزة وأتاحت فرصة جديدة أمام النظام لاستثمارها من جهة تحوّل الزخم الإعلامي والاهتمام العام بما يقوم به الكيان الصهيوني من فظائع بحق أهالي غزة، وبالتالي انحسار الضوء عن حراك جبل العرب. ولعله من البديهي استمرار تصدّي السلطة الحاكمة لانتفاضة السويداء وأي شكل آخر من أشكال الحراك في سوريا طالما نظر الأسد إلى المحتجّين على سياساته، بمن فيهم الموالون لحكمه، على أنهم أعداءٌ يجب الخلاص منهم. وبهذا يغدو من المنطقي توقّعُ ما لا يمكن حصره من ممارسات قد يُقدم عليها حاكم دمشق في سبيل حماية سلطته.
ما يجري في السويداء من حراك شعبي ظل بعيداً عن اهتمام المعارضة وقياداتها، وكأن السويداء في قارة أخرى، وكأن الحراك القائم فيها إنما انطلق لشأن خاص بمدينة السويداء ولا يعني القضية السورية بشيء
ولئن بدت مجمل التحديات التي يواجهها الحراك من جانب السلطة تجري ضمن سياق ما هو مُتوقّع الحدوث، فإن واقع الحال يؤكّد أن ثمة تحدّيات أخرى بدت تتنامى وتظهر إلى العلن، كما بدت تظهر ارتداداتها بشكل جلي على المشهد السوري، ولعل من أبرز تلك التحديات الأخرى حالة الاستنقاع السياسي للمعارضة الرسمية السورية التي توقع البعض أن يبادر الائتلاف وهيئة التفاوض بقيادتيهما الجديدتين إلى الخروج ببرنامج عمل جديد تكون من أبرز أولوياته الاهتمام بحراك الداخل السوري الحامل المتبقي لثورة السوريين، وأن يكون الهاجس الأول للكيانين المذكورين هو السعي الحثيث لاستعادة الثقة بين الكيانات السياسية والحاضنة الشعبية للثورة، وكذلك كان من المفترض أن تكون انتفاضة السويداء هي مهوى اهتمام المعارضة كونها شعاع الضوء الوحيد المنبثق من الخراب الذي عمّ الجغرافيا السورية بمجملها. بالفعل لقد شهدنا جولات متلاحقة لرئيس الائتلاف مصحوباً برئيس حكومته المؤقتة إلى لقاء العديد من الجماعات السورية في الداخل، وقد تركّز معظمها على الاجتماع بقادة الفصائل وبعض التجمعات العشائرية وبعض المجالس المحلية، وبدا واضحاً أن هكذا لقاءات قد توجبها المصالح الوظيفية التي تقتضي المزيد من استمرار الولاءات القديمة وشراء ولاءات جديدة وتحييد خصوم مفترضين، أما ما يجري في السويداء من حراك شعبي فظل بعيداً عن اهتمام المعارضة وقياداتها، وكأن السويداء في قارة أخرى، وكأن الحراك القائم فيها إنما انطلق لشأن خاص بمدينة السويداء ولا يعني القضية السورية بشيء. ولعل المسعى ذاته يبدو من جانب الرئيس الجديد لهيئة التفاوض الذي بدا كأنه منكوب بجمود مسار اللجنة الدستورية، كما بدا هاجسه الشاغل هو مناشدة الروس لدفع نظام الأسد نحو العدول عن مقاطعة اللجنة الدستورية التي بدت كأنها السبيل الوحيد لخروج هيئة التفاوض من يُتْمها أو عطالتها. علماً أننا لا نعدم كلاماً يصدر من قادة الائتلاف ومشتقاته يشيد بحراك السويداء، ولكن هو شبيه بكلام المناسبات الذي غالباً ما يقال لفضّ العتب لا أكثر.
لا يبدو أن تجاهل الحراك الشعبي في جبل العرب من جانب المعارضة الرسمية ناتجٌ عن تقطّع أوصال البلاد السورية ولا من انعدام وسائل اللقاء بين الطرفين، إذ ثمة أكثر من سبيل لدعم الحراك الجنوبي في سوريا، فمناطق الشمال السوري التي تقع تحت سيطرة الجيش الوطني والائتلاف يمكن أن تكون مسرحاً موازياً لحراك شعبي متضامن مع حراك السويداء على الأقل في يوم الجمعة من كل أسبوع، وما المانع في أن يكون حراك الجنوب أحد محاور الحديث لخطباء المساجد في صلاة يوم الجمعة؟ وما الضير في أن يكون أعضاء الحكومة والائتلاف وقادة الفصائل في مقدمة هذا الحراك المماثل لو حصل؟ وبالفعل فقد بادر مواطنو الشمال وناشطوه في الأيام الأولى لانطلاقة انتفاضة الجنوب إلى حراك كهذا، ولكن يبدو أن هذا الصنيع لم يرق للمتحكمين وأصحاب السلطة النافذة في تلك المناطق فأوعزوا من خلال وسائلهم وأدواتهم المعروفة للحيلولة دون انتشار نشاط كهذا، وبهذا تكون محاصرة الحراك الشعبي في السويداء والسعي إلى عدم تحوّله إلى حالة سورية عامة هي ليست نتيجة سعي نظام الأسد فحسب، بل بفعل خذلان المعارضة السورية وتجاهلها لانتفاضة الجنوب أيضاً، علماً أن أي تراجع لحراك السويداء إلى الخلف فلن تنحصر نتائجه على مدينة السويداء فحسب، بل ستطول تداعياته القضية السورية برمتها.
ما يدركه الجميع هو أن تنفيذ القرار الأممي مرهون بمبادرة سورية (ميدانية وسياسية) قادرة على زحزحة نظام الأسد من وراء متاريسه وضاغطة على مقوّمات وجوده من جهة، وكذلك قادرة على إقناع المجتمع الدولي بجدوى نضالها وعدالة مطالبها من جهة أخرى
لعله بات من اللافت أن جميع قوى الأمر الواقع تدّعي تمسّكها بالحل الأممي للقضية السورية وفقاً للقرار (2254) ولكن في الوقت ذاته تسعى كل جهة إلى مقاربة القرار المذكور بما يخدم توجهاتها ومصالحها السلطوية، ولئن وجد الائتلاف وهيئة التفاوض أن السبيل إلى تنفيذ القرار الأممي يكمن عبر مسار اللجنة الدستورية ذات المصير المجهول أو ربما المرهون بمشاركة جدّية شبه مستحيلة الحدوث من جانب نظام الأسد، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) يجد السبيل إلى تطبيق القرار الأممي لا بدّ أن يكون عبر المرور بال (العقد الاجتماعي) الذي أعلن عنه في مؤتمره الأخير في مدينة الرقة أوائل الشهر الجاري، لكن ما هو مؤكّد أن الجميع يعلم في قرارة ذاته أن التطبيق الفعلي لأي قرار أممي لن يكون هديةً ينتظرها السوريون من المجتمع الدولي، ولن يتوقع السوريون – كذلك – تغيّراً مفاجئاً يجعل من نظام الأسد ملاكاً بعد أن كان غايةً في التوحّش، فيقبل الانخراط الجدّي في العملية السياسية ذات المرجعيات الأممية، بل لعل ما يدركه الجميع هو أن تنفيذ القرار الأممي مرهون بمبادرة سورية (ميدانية وسياسية) قادرة على زحزحة نظام الأسد من وراء متاريسه وضاغطة على مقوّمات وجوده من جهة، وكذلك قادرة على إقناع المجتمع الدولي بجدوى نضالها وعدالة مطالبها من جهة أخرى، وحده حراك السويداء من يسعى بهذا المنحى، فهل سيصمد أمام مواجهة الأعداء والخاذلين معاً؟.