تراهن أحزاب المعارضة في تركيا على تماسكها رغم الخلافات الكبيرة والمتعددة التي تضرب تحالفها السداسي الذي تجاوز رقم 6 نحو أحزاب جديدة بدأت تزيد من حجم الاختلاف الموجود في الهوية ومجموعة القيم والمبادئ الحزبية.
نعم قد تبدو أحزاب التحالف الحاكم متراجعة أو اُستنزفت بعض أصواتها لكن هناك قواسم مشتركة متينة لا تزال تجمع بينها، وربما تنظر تلك الأحزاب للتحالف على أنه مسألة حياة أو موت، فلا نشهد مهاترات بين حزبي العدالة والتنمية "الحاكم" وحليفه الحركة القومية مثلاً.
لكن في المعسكر الآخر لم تتوقف الهجمات المضادة بين حزبي الشعب الجمهوري والجيد إلى الآن، وهذا يشير إلى أن الخلافات لم ترقد بعد.
انفصام سياسي
بينما يقود حزب الشعب الجمهوري تحالف الطاولة، فإن حزب الجيد القومي من وسط اليمين يعتبر ثاني أكبر تلك الأحزاب، ويعيش حالة انفصام سياسية فهو الحاضر الغائب، والحليف الخصم.
مطلع الشهر الحالي انتفضت ميرال أكشنار رئيسة حزب الجيد على حلفائها الخمسة على الطاولة، بشأن الإصرار على مسألة ترشيح كمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة للانتخابات الرئاسية؛ ثم عادت بعد يومين وحضرت اجتماع إعلان المرشح الرئاسي المشترك، لكن ومع ذلك لم تكون عودتها عن رضا بقدر ما كانت شبه مرغمة، وبقدر ما كان تلبية لضرورة المصلحة والخوف من العزلة.
ما يحدث الآن، هو أن كمال كليتشدار أوغلو المرشح الرئاسي عن الطاولة، يريد توسيع دائرة التحالف وجذب أكبر قدر ممكن من شرائح الناخبين، وهي خطوة في الطريق الصحيح الذي يتماشى مع مصلحته لكسب الانتخابات، ولذلك فهو عقد مناقشات يمكن وصفها بأنها"ناجحة" إلى الآن مع حزب الشعوب الديمقراطي "الكردي".
ورأينا كيف أن الشعوب الديمقراطي قرر عدم تسمية مرشح رئاسي خاص به، عقب اجتماع قيادته مع كليتشدار أوغلو، وهذا يعني أن دعم الحزب وحلفائه الصغار من أحزاب اشتراكية وشيوعية سيتوجه نحو دعم كليتشدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية.
نرجّح "الهزيمة"!
رغم أن هذه الصورة من المفترض أن تكون "مبهجة" لأحزاب المعارضة، لأنها وضعت لها فرصة كي تلتئم تحت سقف واحد بعد عشرين سنة من "الشتات" والخسارات المتتالية، فإنها لا تلبي مطالب جميع الأحزاب المتحالفة.
وربما يُراد من هذا الحلم أو الطموح أن يكون غاية تبرر ما دونها، بما في ذلك انتقادات حزب الجيد الذي ينظر للشعوب الديمقراطي بريبة، بسبب الاتهامات الموجهة له بارتباطه بحزب العمال الكردستاني.
كثيراً ما كانت تصرح أكشنار أنها لن تكون حاضرة في طاولة عليها حزب الشعوب الديمقراطي، كذلك صرح نواب ومسؤولون آخرون من حزبها، وكل ذلك كان قبل الخلاف الأخير حول تسمية المرشح الرئاسي، وخروج ومن ثم عودة أكشنار.
لكن أصوات حزب الجيد عادت تعلو من جديد ضد محاولة ضم حزب الشعوب الديمقراطي، لدرجة أن النائب البارز ياوز أغرلي أوغلو، قال إنه يرجّح الهزيمة على أن يفوز من خلال "مدح قاتل الأطفال"، في إشارة إلى مؤسس حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، إذ يطالب حزب الشعوب الديمقراطي بإطلاق سراحه ويعد بذلك في حال الوصول إلى السلطة.
حملة انتخابية "مدروسة"
في ضوء ذلك، هناك ما يلفت الانتباه في الحملة الانتخابية الخاصة بحزب الجيد الذي تقوده أكشنار والتي لم تستسغ ترشيح كليتشدار أوغلو عن الطاولة السداسية، وهو ما يمكن ترجمته من خلال اللوحات الإعلانية التي تجمع بين صورة أكشنار ورئيسَي بلدية أنقرة منصور ياواش وإسطنبول أكرم إمام أوغلو، وهما الاسمان اللذان ناضلت لأجلهما أكشنار كي يتم ترشيح أحدهما للانتخابات الرئاسية عن الطاولة.
تجد عبارة "سنكتب التاريخ" تحت تلك الصورة الثلاثية، بينما بعض اللوحات الإعلانية تجمع بين صورتي أكشنار وكليتشدار أوغلو مع عبارة "سنفوز معاً".
ما تريد أكشنار قوله هو أنها عادت للطاولة بشروطها أو بما يحفظ ماء وجهها وبينما تنازلت عن مسألة ترشيح أحد رئيسي البلدية تم تعيينهما كنائبين للمرشح الرئاسي، ليصبح لديه 7 نواب، وهي سابقة في تاريخ التحالفات السياسية.
ثانياً، تشير تلك الدعاية الانتخابية إلى أن أكشنار لا تزال تعوّل على أحد هذين الاسمين كبديل جاهز في وقت ما، أو ربما هما الخطة "ب" لأكشنار، فلو فشل كليتشدار أوغلو في هذه الانتخابات فسيخرج من اللعبة تماماً وهو خاسر، لكن الرابح الوحيد ربما من المعارضة ستكون أكشنار نفسها، وستذكّر الشعب الجمهوري بمعادلتها "الرابحة" التي لم ينصت لها.
إذا خسر كليتشدار أوغلو، فمن المرجح أن أكشنار ستبدأ لعبتها التي علقتها على مضض، وستعمل على الدفع نحو انتخابات مبكرة بمرشحها الرئاسي الذي أصر كليتشدار أوغلو وبقية أحزاب الطاولة على رفضه.
حتى في حملة حزبها الانتخابية ستركز على هذين الاسمين، وستذكّر الجمهور بهما على الدوام، في حين يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك ويرى أن جزءاً كبيراً من حاضنة حزب الجيد لن يصوت لكليتشدار أوغلو، وسيفضّل مقاطعة الانتخابات على ذهاب صوته إلى رئيس حزب الشعب الجمهوري الذي خسر جميع المواجهات الانتخابية أمام أردوغان.
جزء كبير من حاضنة حزب الجيد هم أصلاً قوميون، وهم يتساءلون عن فحوى المحادثات التي جرت بين حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، فلا يعقل أن يكون الأخير رضي بدعم كليتشدار أوغلو من دون مقابل.
وهذا الضباب الذي خيم على تلك المحادثات القصيرة سيؤثر بالتالي على رأي حاضنة حزب الجيد، ولو أضفنا له التأثير الذي يتمتع به محرم إنجة أحد الأعمدة السابقة لحزب الشعب الجمهوري، نجد أن أصوات المعارضة لا تزال في خطر وستكون مشتتة ومستنزفة، وهو ما يشير إلى أن الجولة الأولى على الأرجح لن تكون محسومة من قبل أي تحالف موجود.
ربما يكون هذا التوقع صائباً أو لا، لكن قضية حسم الجولة الأولى صعب لكلا التحالفين الحاكم والمعارض، بل ربما تحالف الجمهور الحاكم يبدو أكثر قدرة على حسمها من المعارضة، لا سيما مع انضمام حزب "الرفاه من جديد" بقيادة فاتح أربكان، وما يتمتع به من حاضنة شعبية سنرى أنها ستغطي على حاضنة حزب السعادة المعارض وأحد أحزاب الطاولة السداسية.
لو أردنا إجراء عملية حسابية سريعة حول شريحة المعارضة، نجد أن الشعب الجمهوري له شريحة أصوات ثابتة لا تقل عن 23%، ولو افترضنا أن حاضنة حزب الجيد كلها ستصوت لكليتشدار أوغلو فسيحظى منها بـ10% على أبعد تقدير، ولو أضفنا إليهما أصوات الشعوب الديمقراطي 11%، و2% للأحزاب الأربعة الأخرى على الطاولة كأبعد تقدير، فإن المجموع بالمجمل يصل إلى 46%، وهو أعلى طموح يمكن أن تفكر به طاولة المعارضة كشرائح دعم ثابتة بغض النظر عن الشريحة المترددة أو أصوات الشباب الذين سيشاركون لأول مرة في التصويت.
وفي المقابل، لنفترض أن حزب العدالة والتنمية لا يزال يحافظ على 40% إلى جانب 9% على أبعد تقدير من أصوات الحركة القومية، و1% من حزب "الرفاه من جديد"، فإن مجمل الأصوات ستكون 50% وهو كذلك يمثل أعلى طموح أيضاً لتحالف الجمهور.
أما المراهنة بالنسبة لكلا التحالفين فستكون على النجاح في استقطاب أصوات المترددين والناخبين الجدد، وهو تحدّ صعب، ولذلك جاءت فكرة صعوبة حسم الجولة الأولى، لكن بالطبع تبقى هذه الأرقام مجرد تقدير فحسب في كلا الاتجاهين.