بينما تمضي حكومة نظام الأسد منهمكةً في التحضير لانتخابات الرئاسة المقبلة في 26 أيار المقبل، محاولةً إثارة المزيد من الضجيج الإعلامي المحلي والدولي؛ لا يرى قسم كبير من شارع المعارضة السورية أيّ بأس من الانخراط في هذا الانهماك الإعلامي، بل ربما رأى بعضهم أنه من الضروري الوقوف عند مسألة الانتخابات المزمع إجراؤها، باعتبارها ترسيخاً لسلطة الأسد واستمرار الاستبداد، فضلاً عن كونها انتهاكاً للقرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية وخاصة القرار 2254 الذي ينص على كتابة دستور جديد ومن ثم الدخول في عملية انتخابية تحت إشراف أممي.
قد يبدو هذا التوجه منسجماً مع المنظور الأممي أو الدولي لقضية السوريين، ولكن هل ينسجم حقاً مع منظور السوريين لطبيعة وماهيّة نظام الأسد؟ يمكن التأكيد على أن السوريين وحدهم من عرف وعانى مرارة التسلّط الأسدي منذ عام 1970 وحتى الوقت الراهن، وبالتالي من المفترض أن يكونوا هم أكثر معرفة بماهية هذا النظام من جهة، وكذلك أكثر خبرة بالتعاطي مع طرق مواجهته ومقاومته من جهة أخرى، فلماذا إذاً هذا الإصرار من جانب أكثر النخب السياسية والثقافية السورية، على التعاطي مع قضاياهم وشؤونهم الوطنية من خلال منظور وفهم الآخرين لها، وليس من خلال معرفتهم وتجاربهم ومعايشتهم لواقعهم؟
لقد استولى حافظ الأسد على السلطة وتسلّط على رقاب السوريين طيلة ثلاثين سنة، ثم ورث الحكم من بعده ابنه بشار، وما يزال مستمراً في حكم البلاد منذ عشرين سنة، وطيلة نصف قرن من حكم آل الأسد، لم تكن انتخابات الرئاسة تجري سوى بنسخة واحدة، فالمُرشّح للرئاسة هو رئيس النظام ذاته، والإجراءات القانونية الشكلية هي ذاتها، والحصانة الأمنية لسيرورة الانتخابات هي هي لم تتغيّر، والنتائج معروفة قبل بدء العملية الانتخابية، أي سيفوز الرئيس بنسبة ساحقة.
ولعل تكرار هذه العملية قد جعل المسألة تتحوّل من استحقاق دستوري وقانوني إلى طقوس احتفالية يتم التحضير لها مسبقاً، ولم تكن تلك الطقوس والمهرجانات الاحتفالية تجري في أقبية المخابرات أو في أماكن أخرى سرية، بل على الملأ، لتتبعها بعد عدّة أيام رسائل التبريكات الموجهة من دول ورؤساء العالم مهنِّئة رئيس النظام بتجديد البيعة الجماهيرية له.
ولعل تكرار هذه العملية قد جعل المسألة تتحوّل من استحقاق دستوري وقانوني إلى طقوس احتفالية يتم التحضير لها مسبقاً
ولئن كان تكرار تلك العملية الانتخابية بهذا الشكل المعهود طيلة خمسين سنة ماضية من حكم الأسدين لم يلق استنكار المجتمع الدولي، ولم ينتقص من شرعية نظام الأسد دستورياً وقانونياً لدى جميع المحافل الدولية، فما الذي سيدفع المجتمع الدولي في الوقت الراهن لاستنكار العملية الانتخابية التي سيجريها بشار الأسد في السادس والعشرين من أيار المقبل؟ هل هو حجم الدمار الذي ألحقه الأسد بسوريا؟ أم هي درجة التوحّش والإيغال في قتل مئات الآلاف من السوريين؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل كان حافظ الأسد إبان فترة حكمه بريئاً من دم السوريين؟ وهل كانت سوريا في عهده واحة للسلام والديمقراطية؟
أمّا إن كان سبب استنكار المجتمع الدولي عائد إلى عدم التزام الأسد ببنود القرار 2254 فيما يخص كتابة الدستور ومن ثم الانتخابات، فيمكن القول: لماذا لم يستنكر المجتمع الدولي، ومن ثم يسعى إلى إلزام الأسد بالبنود الإنسانية الملزمة في القرار المذكور، وأعني ما يخص الإفراج عن المعتقلين والكشف عن المغيّبين؟ وهي مسألة لا تقل شأناً، بل ربما هي أكثر أهمية بالنسبة إلى ملايين السوريين، من مسألة الدستور والانتخابات.
ويبقى السؤال عن المآلات العملية للموقف الدولي من انتخابات الأسد موضع رهان كثيرين، أي إن أنجز الأسد انتخاباته المقبلة، غير آبه بأي استنكار أو احتجاج، سواء أكان سورياً أو دولياً، واستمرّ في تصدير شرعية، مصدرها الوحيد هو قدرته على الاستمرار في القتل والإجرام بمؤازرة حليفيه الروسي والإيراني، وهذا ما سيحصل على الأرجح، فهل سيتحوّل الاستنكار الدولي إلى مواقف أكثر عملية، كأنْ تبادر الولايات المتحدة الأميركية ودول أوربية أخرى إلى طرد سفراء النظام وممثليه الدبلوماسيين كتعبير فعلي عن عدم اعترافها بشرعية انتخاباته؟ وهل سيشهد السوريون دعوات دولية لإبعاد تمثيل نظام الأسد من المحافل الدولية كالأمم المتحدة وسواها؟ واقع الحال يؤكّد أنه لا المعطيات السياسية الراهنة، ولا إرث العلاقات الغربية مع نظام الأسد يؤيد ذلك، بل لعل سقف التوقعات لن يتعدّى المواقف الإعلامية التي تكرر وجوب التزام الأسد بالتفاعل مع القرارات الأممية، وبالمقابل لن يعدم الروس القدرة على مشاغلة المجتمع الدولي من خلال حضور نظام الأسد في اللقاءات المقبلة للجنة الدستورية، حضور من أجل المشاغلة فقط، دون الوصول إلى نتيجة.
وبالتوازي مع المآلات المُتَوقَّعة للمهزلة، ستعلو نبرة الكيانات الرسمية للمعارضة السورية.. أصرّوا لسنوات على تعزيز القناعة لدى السوريين بأن إيجاد دستور جديد سيكون المدخل المناسب في العملية السياسية وتفكيك نظام الأسد
وبالتوازي مع المآلات المُتَوقَّعة لمهزلة انتخابات الرئاسة الأسدية المُزمع إجراؤها، ستعلو نبرة الكيانات الرسمية للمعارضة السورية، وسيسمع السوريون كلاماً مكروراً على عدم شرعية الأسد وبطلان انتخاباته دستورياً، وكذلك على عدم التزامه بتنفيذ القرار 2254، بل ربما سيمضي بعضهم باتهام المجتمع الدولي بتهاونه وتقصيره عن ممارسة ضغوط جدية من شأنها إجبار نظام الأسد على تنفيذ القرارات الدولية، وكأنهم يكشفون للسوريين عن حقائق كبرى لم يكن يعلم بها أو يتوقعها أحد سواهم، بل سيعمدون إلى الندب والصياح نتيجة خيبة مُفتَعلة، هم أوّل من سعى إلى تأسيسها حين تحدّوا إرادة السوريين من خلال الانصياع للتفسيرات الروسية للقرارات الأممية، وكذلك من خلال ادّعاء براغماتية كاذبة وواقعية سياسية وهمية قوامها الرضوخ السلس لإرادة الدول الراعية لمسار أستانا.
وأصرّوا – خلال سنوات مضت – على تعزيز القناعة لدى السوريين بأن إيجاد دستور جديد سيكون المدخل المناسب في العملية السياسية وتفكيك نظام الأسد، في حين أكّد لهم الروس ونظام الأسد معاً أنْ لا علاقة تلازمية بين عمل اللجنة الدستورية وانتخابات الرئاسة، كما أكّد لهم الشارع السوري بعفويته الثورية تمسّكه بتراتبية حقوقه كما أقرتها الجهات الأممية، فاتهموه بالشعبوية والغوغائية، واليوم إذ يستنكرون ويعربون عن خيبة أمل، حيال نتيجةٍ هم من ساهم بتعزيز أسبابها، فإن هذه الخيبة الافتعالية أو المصطَنعة لن تضيف أيّ جديد إلى فهم كثيرٍ من السوريين الذي بنوا موقفهم من نظام الأسد على وعي صادق بماهيته، وليس على فهم مُستعار.
فأنْ يكذبَ المرءُ على نفسه، ويسعى إلى جعْلِ كذبته حقيقة، فهذا شأنه، أمّا أن يطلب من الآخرين تصديقها، فتلك مصيبة.
حسن النيفي