اتَّخذت أحزاب المعارضة التركية، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، موقفاً مناهضاً للانتقال إلى النظام الرئاسي في تركيا منذ الاستفتاء العام لتعديل الدستور في نيسان/أبريل 2017، والذي نجح بنسبة 51.41% بدعم من حزبي: العدالة والتنمية، والحركة القومية. كما شكَّل الانتقال إلى نظام "برلماني مقوَّى" أحد أبرز المسائل التي ناقشت وأجمعت عليها أحزاب الطاولة السداسية/تحالف الملة، ومن ثمّ أحد ركائز الحملة الانتخابية للتحالف ومُرشحه الرئاسي كمال كليتشدار أوغلو في الانتخابات الأخيرة.
عقب نتائج الانتخابات البرلمانية في الدور الأول، والتي أفضت إلى حصول تحالف الشعب على الأغلبية البرلمانية بواقع 323 مقعداً من أصل 600، لم يعد وعد الانتقال إلى نظام برلماني على جدول أولويات الحملة الانتخابية في الدور الثاني لمرشح المعارضة كليتشدار أوغلو نظراً لعدم نجاح التحالف في الحصول على الأغلبية البرلمانية، وبالتالي عدم حيازته القدرة على إجراء تعديلات دستورية بهذا الخصوص، ما يجعل النظام الرئاسي يترسخ شيئاً فشيئاً في الحياة السياسية التركية. وفي هذا الإطار، وبعد مرور خمس سنوات على الانتقال للنظام الرئاسي وخوض دورتين انتخابيتين في عامي 2018 وَ2023، أحدث النظام الرئاسي تغييراً في طبيعة الحياة السياسية التركية على مستويات عدة: نظام التحالفات السياسية، عدد الأحزاب، وتموضع الأحزاب السياسي والأيديولوجي.
برزت التحالفات السياسية كأحد أبرز نتائج الانتقال للنظام الرئاسي، وهو ما يتضح بشكل رئيسي بتأسيس: تحالف الشعب من قبل حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في شباط/فبراير 2018، وتحالف الملة بقيادة حزب الشعب الجمهوري، وحزب الجيد، في أيار/مايو من العام ذاته قبيل الانتخابات العامة والرئاسية التي عُقدت في حزيران/يونيو 2018، كأوَّل انتخابات عقب استفتاء التعديلات الدستورية عام 2017. يُضاف إلى ذلك تحالف العمل والحرية بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي-حزب اليسار الأخضر، والذي يضم طيفاً من الأحزاب اليسارية/الاشتراكية، وتحالف الجد بقيادة حزب الظفر، وتحالف اتحاد القوى الاشتراكية.
ازداد دور الأحزاب الصغيرة داخل التحالفات السياسية وهو ما يتضح، بشكل رئيسي، بانضمام حزب الوحدة الكبير وحزب الرفاه من جديد لتحالف الشعب الحاكم، وأحزاب: الجيد، السعادة، الديمقراطي، المستقبل، والديمقراطية والتقدم لتحالف الملة المعارض
إنَّ ما يميِّز التحالفات السياسية للأحزاب في النظام الرئاسي عن سابقتها في النظام البرلماني أنها أكثر ميلاً لتكون استراتيجية، بمعنى أنها مستمرة قبل الانتخابات وبعدها وبوجود حكومات مستقرة بحكم عدم استناد تأسيس الحكومة على عملية محاصصة حزبية لمجلس الوزراء، على عكس ما كانت عليه الحال في النظام البرلماني الذي كانت فيه التحالفات، أو الائتلافات الحزبية إن صح التعبير، أقرب لحالة تكتيكية منها لاستراتيجية بحكم أن الأحزاب كانت تخوض الانتخابات بشكل فردي، وتتحالف عقب نتائج الانتخابات بهدف تشكيل حكومة ائتلافية، الأمر الذي جعل من هذه التحالفات، والحكومات الائتلافية المرتبطة بها، عرضة للتبدل والتغير بشكل مستمر بحسب ديناميات التنافس السياسي بين الأحزاب المختلفة، ما أضفى طابعاً غير مستقراً على الحياة السياسية.
بالتوازي مع بروز التحالفات السياسية، ازداد دور الأحزاب الصغيرة داخل التحالفات السياسية وهو ما يتضح، بشكل رئيسي، بانضمام حزب الوحدة الكبير وحزب الرفاه من جديد لتحالف الشعب الحاكم، وأحزاب: الجيد، السعادة، الديمقراطي، المستقبل، والديمقراطية والتقدم لتحالف الملة المعارض. ولا تقتصر مسألة دور الأحزاب الصغيرة على تلك التي انضمت للتحالفات السياسية فقط، وإنَّما تمتد لمستوى الأحزاب في تركيا بشكل عام، حيث تأسَّس 63 حزب منذ عام 2017 ما يعادل تقريباً نصف عدد الأحزاب البالغ عددها 130، خاض 24 حزباً منها الانتخابات البرلمانية الأخيرة (2023) بالمقارنة مع 8 أحزاب فقط كانت قد خاضت الانتخابات عام 2018.
تأسَّست غالبية الأحزاب الجديدة (54 حزبا) بين عامي 2020 وَ 2023، أي بعد خوض الانتخابات العامة في 2018 والانتخابات المحلية عام 2019 بنظام التحالفات الانتخابي. ويرجع هذا الارتفاع الواضح والملحوظ في عدد الأحزاب لسعي جلِّها لكسب تموضع سياسي يفوق ثقلها الانتخابي في صندوق الاقتراع عبر الاستفادة من نظام التحالفات على المستوى البرلماني لتخطي العتبة المطلوبة أو دخول الانتخابات عن قوائم أحزاب كبيرة، مستفيدةً من سعي الأحزاب الكبيرة لضمان دعم الأحزاب الصغيرة لمرشحها الرئاسي ضمن معادلة 50+1.
حزب العدالة والتنمية، لم يشهد تحولاً حاداً في تموضعه السياسي والأيديولوجي، لكونه الحزب الحاكم الذي مهَّد وصنع التحوُّل في النظام السياسي في البلاد
انعكست جملة هذه الديناميات على طبيعة التموضع السياسي-الأيديولوجي للأحزاب التقليدية/السائدة أيضاً، وهو ما اتَّضح بأجلى صوره بحالة حزب الشعب الجمهوري الذي شهد خطابه وسلوكه السياسي تحولاً في السنوات الأخيرة لتتناسب مع معادلة 50 +1 التي تُوجب الوصول لشرائح انتخابية جديدة متنوعة، لا سيما شريحة المحافظين دينياً وشرائح المكوِّن الكردي، الأمر الذي استدعى تبني خطاب "المسامحة" والتصالح مع أخطاء الماضي والمظلوميات التي نشأت لدى هذه الفئات، والانخراط في تحالف مع أحزاب محافظة وترشيح نوابهم عن قائمته الحزبية في الانتخابات البرلمانية، ناهيك عن الإبقاء على تفاهم غير رسمي مع حزب الشعوب الديمقراطي لضمان دعمه وتأييده في الانتخابات الرئاسية، والتفاهم اللاحق مع حزب النصر المعادي للمهاجرين في الدور الثاني للانتخابات؛ وذلك ضمن إطار محاولة الحزب لمحاكاة نموذج سياسة الحزب الشامل (أو ما يُطلق عليه حزب الخيمة الكبيرة) التي تخاطب قواعد انتخابية ذات توجهات سياسية متنوِّعة.
أما بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، فلم يشهد تحولاً حاداً في تموضعه السياسي والأيديولوجي، لكونه الحزب الحاكم الذي مهَّد وصنع التحوُّل في النظام السياسي في البلاد، ولقابلية خطابه السياسي أساساً على استقطاب شرائح واسعة من الناخبين كحزب جماهيري يملك قاعدة انتخابية واسعة سبق أن اقتربت من حدود الـ50% في انتخابات 2011 وَ 2015 وقاعدة أعضاء واسعة تفوق الـ11 مليون عضو، بالإضافة لكون الأحزاب التي تحالف معها متموضعة ضمن فضاء اليمين السياسي.
ختاماً، تُعتبر التحولات على مستويات التحالفات السياسية وعدد الأحزاب والتموضع السياسي والأيديولوجي للأحزاب ضمن الديناميات الطبيعية لتطوُّر شكل النظام السياسي من خلال التجربة، حيث تسعى الأحزاب للتأقلم مع معادلة 50 +1 التي توجب الوصول إلى شرائح انتخابية واسعة. ستكون الأعوام الخمسة المقبلة محددة لمدى ثبات مظلات التحالفات السياسية ومدى قدرة الأحزاب الصغيرة على لعب دور بارز في ديناميات التنافس السياسي، ونطاق التحوُّل في التموضع السياسي-الأيديولوجي للأحزاب السياسية.