مع بداية الثورة السورية تصاعد الموقف العربي من الصمت إلى المطالبة بالإصلاحات ثم التنديد بالمجازر التي ارتكبها النظام بحق المتظاهرين لينتهيَ بقطع العلاقات مع النظام وتوقيف تمثيله في الجامعة العربية، ثم انتقال كثير من الدول العربية إلى الصفّ الداعم للمعارضة السورية والثورة بالسلاح والمال والدعم اللوجستي، وتحمل الأردن أعباء كبيرة باستضافة أكثر من 600 ألف لاجئ إضافة إلى دعمه السياسي واشتراكه في المجموعة المصغرة التي تضمّ (مصر وفرنسا وألمانيا والأردن والمملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية) والتي دعمت مسار اللجنة الدستورية الذي لم يثمر عن شيء خلال جولاته الخمسة، واستضافة غرفة الدعم المشتركة (الموك) على أرضه وتحمّل الأعباء الاقتصادية والخدمية لقاء استضافة اللاجئين.
لم يكن الأردن دولة فاعلة بشكل أساسي في الملف السوري رغم جواره الجغرافي ولم يكن دوره إلا مجرد تحرك ضمن المحاور الدولية والإقليمية
لكن بالتأكيد لم يكن موقف الدول العربية المنحاز في ظاهره للمعارضة ضد نظام الأسد ينطلق أساساً من رغبة هذه الأنظمة بتحرير الشعب السوري، والمساعدة في بناء نظام سياسي ديمقراطي يمكن أن يكون ملهماً لباقي الشعوب العربية، وإنما جاء بشكل أساسي استجابة للضغوط الغربية التي دفعت لأخذ مواقف سياسية ضد النظام ولخصوصية نظام الأسد الذي بات تحالفه مع إيران ينظر له كخطر أمني على العديد من الدول العربية، وكانت الثورة السورية مناسبة للضغط على النظام لكي يفك ارتباطه بإيران ويقدم تنازلات في هذا الملف لقاء إعادة تأهيله وإعادته للحضن العربي وهو ما بقي مطروحاً على نظام الأسد حتى اليوم.
لم يكن الأردن دولة فاعلة بشكل أساسي في الملف السوري رغم جواره الجغرافي ولم يكن دوره إلا مجرد تحرك ضمن المحاور الدولية والإقليمية وتنفيذاً لتوجهات حلفائه من الدول العربية والغرب والولايات المتحدة بشكل أساسي وعلى هذا الأساس افتتحت الأردن غرفة (الموك) التي قدمت الدعم المادي والعسكري لفصائل المعارضة السورية في الجنوب مع عدد من الدول العربية والغربية، ولم يستطع الأردن أداء أدور أكبر من حجمه، لذلك فهو لا يتحرك وفق رؤية ذاتية بالضرورة أو بدافع من السعي لحماية السلطة وفك الضائقة الاقتصادية وإنما التحرك ضمن المحاور الإقليمية والدولية التي تحول فيها الأردن من المحور الغربي الأميركي إلى المحور الروسي الإيراني.
فقد كان الاتصال الهاتفي بين رأس نظام الأسد وملك الأردن عبارة عن تتويج لخطوات عديدة دلت على تحولات ملحوظة في الموقف الأردني تجاه القضية السورية جاء نتيجة تحول في المزاج العربي والمواقف الدولية، وبدأ بعد التدخل الروسي في نهاية سبتمبر 2015 وعدم امتلاك الولايات المتحدة لأية رؤية للحل، لكن حرص الأردن منذ ذلك الوقت على غموض موقفه والظهور بمظهر المؤيد للمعارضة الرافض لفتح العلاقات مع نظام الأسد وهو ما سمح له بلعب دور خطير في تفكيك الحالة الفصائلية المقاومة في الجنوب، والتحكم بقراراتها والاستعاضة عن قياداتها بقيادات تقبل التسوية مع النظام وممارسة كل أنواع الضغط على المعارضة هناك لصالح الأجندة الروسية.
فقد نسقت روسيا تدخلها العسكري في سوريا مع العديد من الدول الإقليمية مثل الإمارات وإسرائيل ومن بينها الأردن حيث سبق التدخل الروسي العسكري زيارة قام بها الملك الأردني لموسكو في شهر آب أغسطس 2015 أي قبل شهر واحد من التدخل الروسي، وهنا يمكن القول إن الأردن دخل فعلياً ضمن الاستراتيجية الروسية منذ ذلك الوقت.
وبعد التدخل الروسي تم اختيار الأردن لتولّي ملف تصنيف الفصائل المعارضة السورية تزامناً مع التحضير لعقد مؤتمر الرياض (1) لاختيار هيئة التفاوض كما قام الأردن بالتنسيق مع روسيا بمهمة الضغط على فصائل الجنوب في درعا لتجميد الجبهات مع النظام نهائيا والسماح لروسيا بالاستفراد بالمناطق المحررة المنطقة تلو الأخرى.
تطور الموقف الأردني مع زيارة ملك الأردن إلى واشنطن في منتصف شهر تموز/يوليو 2021 ودخوله كوسيط بين روسيا والولايات المتحدة لتخفيف الحصار الاقتصادي عن نظام الأسد
ففي شهر أيلول/ سبتمبر 2016 حذرت الأردن فصائل المعارضة من مؤازرة مقاتلي المعارضة في داريا، أو فتح أي معركة للتخفيف من حصار النظام للمدينة ثم منعت فصائل الجنوب من مؤازرة مقاتلي المعارضة في الغوطة في عام 2018 ثم رفعت الغطاء عن الجنوب السوري مع بداية الاجتياح الروسي لمحافظة درعا في تموز/ يوليو 2018 حيث دخل الجنوب فيما سمي تسوية المصالحة الروسية وانتهت بشكل رسمي سيطرة المعارضة السورية على الجنوب.
وأخيراً تطوّر الموقف الأردني مع زيارة ملك الأردن إلى واشنطن في منتصف شهر تموز/يوليو 2021 ودخوله كوسيط بين روسيا والولايات المتحدة لتخفيف الحصار الاقتصادي عن نظام الأسد الذي تأثرت به الأردن بشكل كبير جداً بعد توقف التبادل التجاري بين البلدين لمدة تسع سنوات، وطلب ملك الأردن من الرئيس بايدن تجميد العمل بقانون قيصر والسماح بالتبادل التجاري مع نظام الأسد والسماح بتمديد خط الغاز العربي عبر سوريا إلى لبنان متزامناً كل ذلك مع حملة الميليشيات الإيرانية على درعا البلد التي لم يخرج الأردن أي بيان تنديد أو إدانة بحقها.
في بداية أيلول /سبتمبر 2021 التقى وفد برلماني أردني برئاسة رئيس البرلمان الأردني عبد المنعم العودات بزعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي في أثناء زيارة قام بها الوفد الأردني إلى بغداد وذلك لطلب الوساطة منه لدى إيران لضبط ميليشياتها الموجودة على الحدود الشمالية للأردن، وبعد افتتاح خط الغاز العربي واحتمال تعرضه للعمليات التخريبية من قبل الميليشيات الإيرانية كما هو مرجح، تمت دعوة وزير الدفاع السوري لزيارة الأردن ولقائه مع نظيره الأردني في عمان لبحث إجراءات التنسيق الأمني والعسكري لحماية الحدود الأردنية وحماية خط الغاز الذي تعرض للتخريب.
ويبدو أن الأردن وبعد فشل الاستراتيجية العربية في مواجهة إيران وتخلي الولايات المتحدة عن الملف السوري إضافة إلى الهواجس الأمنية من انتشار التنظيمات المتطرفة على حدوده والضائقة الاقتصادية الخانقة قد قرّر الاتجاه للتفاهم مع روسيا بشكل أساسي التي باتت تسد الفراغ الأكبر في سوريا، والتفاهم مع إيران التي ثبتت وجودها على الأرض متماشياً أيضاً مع الموقف الأميركي الذي لم يعد مكترثاً بتنفيذ الحل السياسي في سوريا والذي صار يعلن أن هدفه هو فقط تغيير سلوك نظام الأسد.