شهدت الساحة السورية في الفترة الأخيرة تداول عدة معلومات ومعطيات وبشكل خاص حول منطقة شرق الفرات والحديث عن مساع أميركية من أجل توحيد الإدارات شمال غربي وشمال شرقي سوريا، ورافق ذلك تطورات عديدة طرحت تساؤلات جديدة عن حقيقة المقاربات الجديدة في المنطقة، وموقف الأطراف الفاعلة وربط هذه التطورات وما يجري بالحرب الروسية الأوكرانية، ومن المهم أيضا معرفة الموقف التركي الفاعل في هذه المنطقة وشروطه وخطوطه الحمراء التي رسمها في أي تطبيع يجري في المنطقة، حيث إن أي جهود مبذولة هناك من يعرقلها ولا مصلحة لتلك الأطراف في حصول ذلك التطبيع وأهمهم النظام وداعموه، حيث ترفض هذه الأطراف تطبيع الأوضاع في هذه المناطق وخاصة في شمال غربي البلاد أي منطقة خفض التصعيد في إدلب.
وتستند المعطيات الجديدة إلى عدة عوامل، منها الحديث الإعلامي عن التقارب الأميركي التركي في المنطقة، وهو ما يتيح للطيران التركي المسير قيادة عمليات استهداف قادة تنظيم "بي كي كي" الإرهابي، والتنظيمات الأخرى المتصلة به، وإن كان هذا القصف يستند إلى تنسيق تركي روسي أيضا في الوقت نفسه، من المهم الحديث هنا عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إلى أميركا في النصف الثاني من أيار/مايو، وإجراء لقاء مع نظيره أنتوني بلينكن وسيكون هذا اللقاء هاما جدا فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين، وبطبيعة الحال بمستقبل منطقة شرق الفرات، وستكشف حقيقة التقارب بين البلدين حيث ستؤسس هذه الزيارة للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي جو بايدن في وقت لاحق، وفي ظل خيبة الأمل التركية السابقة منذ حكم الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، بسبب التراجع الأميركي عن تعهدات عديدة قطعها للجانب التركي وخاصة فيما يتعلق بمنطقة منبج، فإن المقاربة التركية ستكون حذرة في تطبيق التوافقات المتعلقة بشرق الفرات ومنبج، ويعتبر الضوء الأخضر للعمليات التركية شمالي العراق من مؤشرات التقارب التركية الأميركية، وستكشف الأيام المقبلة حقيقة تطور العلاقات خاصة مع تطورات الحرب الروسية الأوكرانية.
كما جرى الحديث إعلاميا عن جهود تقودها أميركا من أجل توحيد الإدارات في منطقتي شمال شرقي وشمال غربي سوريا، وإعفائها من العقوبات وما رافق ذلك من تفاصيل وحدود وأبعاد مناطق النفوذ بالمنطقة، وهذا الكلام وإن كان حاليا بعيدا عن التطبيق لعدة اعتبارات، منها عدم اعتراف تركيا بالإدارة القائمة شرق الفرات، وعدم اعتراف روسيا بالإدارة القائمة في إدلب، وتصنيف بعض القوى الموجودة شمال غربي البلاد على أنها منظمات إرهابية وفق تصنيفات الأمم المتحدة، والأهم هو الموقف التركي الذي لديه جملة من المطالب والشروط في هذه المنطقة من أجل التطبيع معها سيتم الحديث عنها أيضا، وبالتالي واقعية التطبيق بحاجة إلى مزيد من الترتيب والتفاهمات الدقيقة.
ومن العوامل والمعطيات التي يتم الحديث عنها هي الانسحابات الروسية من بعض المواقع العسكرية، وانشغالها بالحرب الأوكرانية، وأنها قللت التركيز بما يجري في سوريا خاصة بظل تفاهمات وتوازنات جديدة مع الدول الغربية، وعلى الرغم من القرارات التركية بتطبيق اتفاقية مونترو ومنع تحليق الطيران العسكري والمدني الروسي إلى سوريا عبر الأجواء التركية، ومنع عبور السفن الحربية من المضائق، إلا أن مصادر تتحدث عن رغبة تركية روسية باستمرار التهدئة بالمنطقة، ولكن الدور الروسي معروف ولن يشهد ذلك التراجع المتوقع بل على العكس هناك محددات للتصعيد الروسي في المنطقة ومنها مسار الحوارات الدولية ومواقف الدول الأوروبية، والتطورات الميدانية في أوكرانيا وحجم الخسائر هناك، والتبدلات بالمواقف الدولية، كلها ستحدد مسار الدور الروسي في سوريا، وموضوع تسليم المواقع للميليشيات الإيرانية، ربما هو من المؤشرات هذه لأن إيران لها دور تخريبي في سوريا وتعمل على التصعيد والخروقات، ومن غير المستغرب أن تقف خلف الهجوم الأخير على المدرعة التركية بمنطقة مارع، حيث إنها قادرة على تحريك جناحها في تنظيم "بي كي كي" الإرهابي لتنفيذ الهجمات بمسميات مختلفة، ولإيران كامل المصلحة بعرقلة أي تطبيع في المنطقة وتحاول بالوقت نفسه توجيه الأنظار إلى ملفها النووي والفشل في التوصل لاتفاقات مع الدول الغربية وأميركا، وتصعيدها في أكثر من مكان وتوجيه رسائل عبرها كما حصل في أربيل مثلا، وبالتالي لا يجب التقليل من دور إيران المعرقل في أي جهود مبذولة، ومن هذا المنطلق لا تعتبر إخلاء مواقع وتبديل مؤشر تطبيع بل ربما تحمل العكس.
وإزاء الحديث عن هذه العوامل لا بد من التعرف على الشروط والمحددات والخطوط الحمراء التركية في منطقة شرق الفرات، فقد سبق الحديث عنها والتأكيد عليها عدة مرات خلال الجهود التي حاولت أمريكا القيام بها في عهد الإدارة السابقة، حيث إن أنقرة تضع في مقدمة مطالبها الخروج الكامل لعناصر وقيادات "بي كي كي" من كامل المنطقة، وهذا لا يقتصر على العناصر المسلحة، بل تشمل الإدارات التي تعتقد أنقرة أنها تعج بعناصر التنظيم، وبالتالي فإن هذا المطلب والخط الأحمر التركي لا يوجد أي تراجع فيه، ومن المطالب الأخرى دخول عناصر من أبناء المناطق من أجل إدارتها وتوفير الحماية لها، ومن الواضح أن أنقرة لا تمانع من دخول العناصر المرتبطة بالمجلس الكردي وهي البيشمركة السورية إلى المنطقة والمساهمة في توفير الحماية لها ولا تمانع أيضا مسألة الحوار الكردي الكردي في المنطقة إذا كان يتوافق مع محدداتها، كما أن تركيا ترغب بأن تكون هناك منطقة آمنة منزوعة السلاح على حدودها تتراوح عمقها من بين 30-35 كم من حدودها باتجاه الجنوب أي بعمق الأراضي السورية توجد فيها عناصر مضمونة من أبناء المنطقة، وهذه المطالب التركية الثلاثة من الواضح أنها الأساسية التي لن تحيد عنها فيما بقية الترتيبات والتفاصيل يمكن الحوار بها.
وسبق أن سربت أوساط إعلامية عقب لقاء بوتين وترامب في العام 2018 أن ثمة خطة مطروحة لمعالجة وضع شرق الفرات كما حصل شمالي العراق، عبر إدارة لا مركزية في إطار فيدرالية، وأن هناك مساعي لإقناع تركيا بهذا المسار، خاصة أن تركيا بنت علاقات جيدة مع إقليم شمالي العراق من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمنظمات التركية حاليا تعمل في شمالي العراق، ومن المعروف أن إقليم كردستان العراق يقف على مسافة من تنظيم "بي كي كي" الإرهابي وخاصة في الفترة الأخيرة، وتدعم العمليات العسكرية التركية في المنطقة، وهو واحد من المحددات التي تجعل العلاقة بين أربيل وأنقرة قادرة على الاستمرار، وبناء على هذا من الواضح أن تركيا يمكن أن تبني علاقات مع منطقة شمال شرقي سوريا وفق محدداتها وأن تلعب دورا هاما في إعادة بنائها مستقبلا، وكل ذلك يعتمد بالنهاية على الرغبة الأميركية الحقيقية بالتوافق في المنطقة، وحتى الآن ثمة تفاؤل حذر يسود الأجواء، بانتظار النتائج على الأرض لا على الضبوط والأوراق وحسب.