لعل قضية المعتقلين والمغيّبين في سجون الأسد هي إحدى القضايا المتفرّدة التي لا أحد يملك حقّ طيّها أو تجاوزها أو إسقاطها بالتقادم، ليس لأن هذه القضية تملك أوراقاً بالغة القوّة تشكّل ضغوطاً مباشرة على نظام الأسد فحسب، وليس – أيضاً – لأنها تنطوي على تأثيرات موجعة من شأنها أن تدفع الضمير العالمي للتحرّك واليقظة متجاوزاً مصالحه الأخرى، بل لأنها بالأصل – غير قابلة للوصاية والمقايضات، كما أن ترحيلها من حقبة زمنية إلى أخرى، ومن يد جماعة سياسية إلى أخرى، لا يمكن أن يؤدّي إلى اندثارها أو محوها، فهي وإن لم تكن الشغل الشاغل للمجتمع الدولي الذي لا تشغله سوى مصالحه المادية، وكذلك وإن لم تكن باعثاً للقلق وحافزاً للعمل لدى الجماعات السياسية الموكّلة أو التي تدّعي التوكيل للدفاع عنها، ولكنها بالرغم من ذلك كله، تبقى حيّة ومُتجذّرة في نفوس مئات الآلاف، إن لم نقل الملايين من أولياء الدم والوجع والحقوق المُغتَصبة، فأبناء ضحايا السجون والمعتقلون والمعتقلات، وزوجاتهم وآباؤهم وأمهاتهم وذووهم جميعاً، لا أحد يملك الحق والقدرة على إقناعهم بشطْب آلامهم وإلغاء ما تراكم من فجائعهم حيال مفقوديهم.
ولئن كانت قضية المعتقلين ليست منوطة فقط بالكيانات الرسمية للمعارضة أو وفود التفاوض والتي أخفقت – حتى الوقت الراهن – في إيجاد أي نتيجة ملموسة توحي بأن قضية المعتقلين هي من المسائل الأولوية أو ذات الاهتمام، فإن هذا لم يمنع من أن تعمل عدة جهات أخرى على هذا الصعيد، ولعل في طليعتها (منظمات المجتمع المدني) التي ترى أن لها الأحقية في أن تكون شريكة في النهوض بالمسؤولية حيال قضايا الثورة والمجتمع، وضمن هذا السياق كانت الندوة التي أقامتها (وحدة دعم الاستقرار) وضمن شعارها الرامي إلى إشراك المجتمع المحلي في العملية السياسية والدستورية، يوم الجمعة 13 – 8 – 2021 في مدينة غازي عينتاب التركية تحت عنوان: (المعتقلون السوريون بين العدالة الانتقالية والبنود الإنسانية). ولعل من اللافت الإيجابي لهذه الندوة حرص القائمين عليها على دعوة جميع الأطراف المعنية بقضية المعتقلين، بما في ذلك الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، إضافة إلى عدد من ممثلي منظمات المجتمع المدني وبعض الأفراد المستقلين، وذلك اعتقاداً من الجهة المنظِّمة بأن قضية المعتقلين هي شأن إنساني يجاوز الاصطفافات السياسية من جهة، كما أنه يوجب على جميع السوريين تقديم ما بوسعهم من الدعم والحشد لهذه القضية من جهة أخرى.
وفيما اكتفت الجهة القائمة على مهمة التيسير وتنظيم الحوار، فإن وقائع الندوة تكشف عن حالة يمكن وصفها بـ (الصادمة)، وتكمن بواعث الصدمة في أن قضية المعتقلين – بالرغم من تعاظم تداعياتها الإنسانية – ما تزال موضع تنازع ومناكفات وتحاصصات وسباق على حيازة النفوذ بين جميع الجهات التي يدّعي كلٌ منها ريادته في العمل على هذا الصعيد، فالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة يعزو تقصيره في عدم تحقيق نتائج ملموسة فيما يخص المعتقلين، إلى غياب البيانات الكافية بخصوص أعداد المعتقلين والمعتقلات، بل يتهم منظمات المجتمع المدني بأنها تحجب – متعمدةً – عنه ما تملكه من بيانات ( داتا )، علماً أن تلك المنظمات قد حصلت على دعم مالي وفير من جهات تمويل خارجية – وفقاً للائتلاف – ولكن لم توظف حصيلة عملها في خدمة المنحى العام لقضية المعتقلين، وآثرت تلك المنظمات الاحتفاظ بما تملكه من معلومات – كلٌّ منها على حدة – مما يجعلها أقرب إلى دكاكين تتنافس فيما بينها على سلعة (بيانات المعتقلين والمعتقلات)، فيما تردّ منظمات المجتمع المدني على الائتلاف مُتهمةً إياه باتهامات أخرى، ومُبرّرةً عدم تعاونها معه وتزويده بما لديها، بموقفه المتعالي حيال تلك المنظمات، وأن بعض مسؤولي الائتلاف وقادته يمارسون سلوكاً مع المنظمات يوحي بأنهم رؤساء وأصحاب سلطة في دمشق. فيما يرتفع صوت هيئة التفاوض ولجنتها الدستورية مُضمِراً رغبة واضحة في أن تكون هي المرجعية الأساسية في تبنّي قضية المعتقلين، وذلك لاعتبارها هي الطرف الوحيد الذي يقود المعارضة في عملية التفاوض مع نظام الأسد، وهي لذلك لا ترى حرجاً من تشكيل مرجعية مشتركة بشأن المعتقلين والمعتقلات، لاعتقادها بأحقية هيئة التفاوض أن تكون هي الموجه والمهندس لتلك المرجعية.
لم تخل الندوة – كذلك – من أصوات لجهات فردية مستقلّة، دعت إلى تشكيل لجنة أو لجان لمتابعة قضايا المعتقلين والمعتقلات، شريطة أن تكون المعايير الناظمة لعضوية تلك اللجنة أو اللجان، وعملها، هي الكفاءة المهنية والإخلاص والخبرات المتراكمة على مستوى العمل في مجال حقوق الإنسان وتوثيق الانتهاكات ومتابعة شؤون المعتقلين في سنوات وعقود سابقة، وبالرغم من تأييد كثيرين لهذا المقترح، إلّا أنه اصطدم برفض قاطع من الائتلاف، مُبرِّراً رفضه بوجود ( الهيئة الوطنية للمعتقلين) وهي كيان تابع للائتلاف، وبالتالي تحظى بالشرعية الكافية للعمل، ولا حاجة لوجود كيان آخر مماثل، لأن ذلك سيؤدي إلى مزيد من تشتت الجهود.
ثمة أصوات أخرى، حاولت أن تبدي رأياً يقضي بفصل قضية المعتقلين عن مسارات التفاوض، لأن الأخيرة كان حصادها خاسراً حتى الآن في معظم القضايا الوطنية من جهة، ولأن مسارات التفاوض السياسي تعتمد على أوراق قوة على الأرض تفتقدها قوى الثورة على المستوى الفعلي من جهة أخرى، ولئن كانت موازين (القوى العسكرية) على الأرض هي التي تفرز أوراق القوة لكل طرف مفاوض، فإن قضية المعتقلين تحيل إلى مرجعية (الحق) التي تنحاز إلى المعتقلين وليس إلى الجلاد ولو كان قوياً، إلا أن هذه الأصوات على ندرتها، ظلت دون أدنى صدى، لتعارض ما ترمي إليه مع المصالح المباشرة للكيانات المتصارعة داخل إطار المعارضة.
واقع الحال يؤكد أن التصارع والتنازع الشخصي والمصلحي بين كيانات المعارضة، أو بينها وبين (منظمات المجتمع المدني) واتهام كل طرف منها للطرف الآخر، تارةً بالتعالي الشخصي، وتارة بالرغبة في حيازة النفوذ واحتكار المسؤولية، إنما هو تعالٍ مشترك من تلك الأطراف جميعها على قضية المعتقلين، وإهانة واستخفاف كبيران بجميع فجائع وعذابات ومعاناة ذوي المعتقلين والمعتقلات، فضلاً عن أن العمل الناتج عن تلك المناكفات، مهما بدا الترويج له، فإنه لن يرقى إلى مستوى قضية المعتقلين والمعتقلات السوريات التي تحولت إلى قضية إبادة حقيقية وليست مجرّد اعتقال. ولعلّ الذي لم تدركه الأطراف المتصارعة حتى الآن، أن قضية مئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين، فضلاً عن استشهاد قسم كبير منهم تحت التعذيب، وكذلك العدد الهائل للمجازر والموت الجماعي في السجون وخارجها، أقول: هذه الأمور وحدها كافية لأن تكون مدخلاً حقوقياً وإنسانياً لإسقاط أعتى الأنظمة المتوحّشة، لو تسيّدت المهنية والإخلاص في العمل، وانزاح ما دون ذلك.
لعله من نافل القول أنْ لا أحد من السوريين بقادرٍ على اختيار قادته وممثلي قضاياه السياسية والوطنية، بل ثمة وكلاء يتنافسون في حيازة قبول موكليهم لتفويضهم بالعمل عنهم، وإذا كان متاحاً لجميع هؤلاء الوكلاء أن يجعلوا من قضايا السوريين أدراجاً وسلالم ومصاعد للتسلّق عليها والوصول إلى ما تخفيه النفوس من تعطّش للسلطة وتحقيق المصالح الخاصة، فعلى جميع هؤلاء الإدراك بأن قضية المعتقلين هي قضية ضمير وشرف ووجع وقهر طافح لا يبرح نفوس الملايين من السوريين، وبالتالي لا يمكن تحويلها إلى سلّم يؤدي إلى غايات وضيعة.