منذ البدايات الأولى للثورة السورية، بدأ الحديث مبكراً عن عدة سرديات تتحدث عن مظلوميات حاقت بعدد من المكونات السورية، قبل أن تشكل هذه السرديات مواقف عدة شرائح من المجتمع السوري تجاه الأحداث التي تسارعت في سوريا، وصولا لحالة الاستعصاء السياسي والاجتماعي والعسكري الذي تعيشه سوريا الآن.
وفي ظل التنوع الإثني والديني والطائفي الذي تتمتع به سوريا تاريخياً، فقد تنوعت أيضاً هذه السرديات بين ظلم حاق بهذه القومية أو تلك، أو اضطهاد تاريخي لحق بأتباع هذه الدين أو الطائفة دون سواهم من أتباع الديانات أو الطوائف الأخرى.
ومع تصاعد أحداث الثورة السورية وتفكك القبضة الأمنية للنظام، وصولاً لتدويل القضية السورية، وما تخلل هذه الفترة من سجال سياسي واجتماعي واقتصادي حول مستقبل الدولة السورية، بدأت تتبلور تدريجيا مجموعة من الأطروحات السياسية التي ترتكز على خطاب المظلوميات، عبر نخب حاولت من خلاله سرقة تمثيل المكون الذي تدعي الدفاع عن حقوقه ومظلوميته التاريخية.
وفي سعيها لسرقة هذا التمثيل لم تتوانَ هذه النخب عن تقديم خطاب مغرق بالمحلية، مخاطبين العواطف والغرائز، مستغلين الخوف من المجهول الذي سيطر على مختلف الشرائح السورية بلا استثناء، بدل الخطاب الوطني الجامع والتمترس وراءه، لكونه الحصن المنيع أمام انزلاق المجتمع وراء هذه الصراعات الجانبية على حساب المشكلة الأساسية في سوريا وهي النظام الاستبدادي.
في مقدمة الجهات التي قدمت هذا النوع من الخطاب كان حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي فرض نفسه وصياً على المكون الكردي في سوريا، من خلال طرح مشروع قائم على المظلومية التاريخية للأكراد
ربما من السهل توجيه التهمة بالوقوف وراء انتشار هذا الخطاب وتداعياته التي أوصلت سوريا إلى أتون حرب أهلية طاحنة لنظام الأسد فقط، وهو مفهوم ضمن سياق السياسة التي اتبعها عبر أكثر من خمسين عاماً من حكم سوريا، وترسيخ الانقسام المجتمعي كي يسهل عليه السيطرة على الدولة والمجتمع، وفكرة أن ثمن الإطاحة به هو الفوضى والدمار، لكن هناك جوانب أخرى كان لها دور حاسم في تكريس خطاب المظلومية، تمثلت بجهات كان من المفترض أن تتكاتف للوصول إلى حلول وطنية شاملة لحالة الظلم الذي طال مختلف شرائح المجتمع، لكنها اختارت اختصار معاناة الشعب السوري بمظلوميتها الفئوية، مستغلة السعي المزمن للأطراف الدولية النافذة للتدخل في مصير المنطقة تحت بند حماية الأقليات.
وفي مقدمة الجهات التي قدمت هذا النوع من الخطاب كان حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي فرض نفسه وصياً على المكون الكردي في سوريا، من خلال طرح مشروع قائم على المظلومية التاريخية للأكراد، وحصر المشكلة السورية في الظلم الذي حاق بالمكون الكردي دون غيره من مكونات المجتمع السوري خلال حكم البعث في سوريا، ووجه مكنته الحزبية والإعلامية لتكريس فكرته حول المظلومية الكردية فقط، وذلك من خلال خطاب شعبوي يداعب مشاعر الناس البسطاء، وصلت عند بعض المتطرفين من أتباعه إلى مهاجمة وشتم كل من يفند ادعاءات المظلومية الكردية، والتي يراها معظم السوريين أنها ليست إلا جزءاً من المشهد العام للمأساة السورية.
وبعدما تمكن الحزب بمساعدة كوادر حزب العمال الكردستاني وبتنسيق مع نظام الأسد من السيطرة على المناطق ذات الغالبية الكردية، بدأ العمل على قمع الحركة الثورية الكردية، التي ترى أن حصول الأكراد على حقوق متساوية داخل الوطن السوري يكمن في الانخراط في صفوف الثورة السورية، بالتوازي مع ذلك عزز الحزب طرحه القائم على المظلومية التاريخية للأكراد في تناقض صارخ مع الوقائع التاريخية التي تؤكد أن المكون الكردي كان جزءاً أساسياً وفاعلاً في سوريا قبل حكم البعث، وتمثل ذلك بوجود أكثر من رئيس سوري من أصل كردي، كما يحفل التاريخ بكثير من الحوادث التي تفند المبالغة التي سيقت المظلومية الكردية في إطارها.
خطاب المظلومية في سوريا لم يقف عند القضية الكردية وحسب، بل تعداه إلى شرائح عدة داخل المجتمع السوري، مشكلاً فيما بعد الموقف السياسي لهذه الشرائح تجاه الثورة السورية، وهو ما تم استثماره من قبل مختلف الدول التي تدخلت في الشأن السوري تحت ذريعة حماية الأقليات.
فروسيا التي تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية السادسة لتدخلها في سوريا، تذرعت بحماية مسيحيي الشرق، وهو ما عبر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل صريح خلال خطابه الذي ألقاه في نيسان عام 2015، والذي وصف خلاله وضع المسيحيين في الشرق الأوسط بالمفزع.
بعض تيارات المعارضة هي الأخرى وجدت ضالتها في خطاب المظلومية، ومن هذه التيارات كانت المعارضة الإسلامية
كما ادعى وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف مطلع شهر أيلول الماضي بأن روسيا ساعدت ليس فقط بالحفاظ على الدولة، ولكن أيضاً على المسيحية في سوريا، وأنها كانت مهددة باختفاء جميع المواطنين الذين يعتنقون الديانة المسيحية.
بعض تيارات المعارضة هي الأخرى وجدت ضالتها في خطاب المظلومية، ومن هذه التيارات كانت المعارضة الإسلامية، والتي اعتبرت أن جرائم النظام بحق تنظيمات الإسلام السياسي يعطيها الحق في مصادرة قرار المعارضة، والسيطرة على جميع مفاصل المعارضة السياسية منها والعسكرية، بذريعة أنها الجهة الأكثر تقديما للتضحيات، وهو ما حصل ليس في الثورة السورية فحسب بل في مختلف ثورات الربيع العربي.
خلاصة القول: إن المواقف السياسية التي تم تبنيها بناءً على مظلوميات دينية أو إثنية أفرزت واقعاً يتناقض تماماً مع شعار المظلومية الذي طرحته هذه الفئات، كما ساهم خطابها وإعلامها الشعبوي والغرائزي بانتشار خطاب الكراهية، ما انعكس لاحقا في ممارساتها السياسية والعسكرية والأمنية، حيث أعادت إنتاج سياسة الإقصاء والظلم تجاه باقي شرائح المجتمع السوري.