يميل الإنسان بطبعه إلى تحقيق مصلحته والدفاع عنها، والبعض يذهب إلى تبرير كل الوسائل من أجل ذلك، مهما كانت مضرة بالآخرين، أو مدمرة للوسط المحيط، فالنجاح بنظر هؤلاء ليس إلا الوصول للغاية بأي شكل كان، وما من فائدة تكون لغيرهم إلا سقطاً أو خطأً غير محسوب.
يخضع كل كيان مادي، وإن تفاوت قوْسَا مجاله الزمني بعداً أو قرباً، لسنن عديدة لا يمكن تغييرها، بمعنى قول أبي البقاء الرندي الشهير: "لكل شيء إذا ما تم نقصان"؛ إنها طبيعة الأشياء لا تكتمل إلا لتنقص، فما الوجود إلا بذرة الزوال، وما النزعة إلى الكمال إلا مرأة العيب، وعلى هذا فالهياكل التي يتشارك البشر في تكوينها كأفراد آيلة بطبيعتها وبطبيعة مكونها إلى الزوال سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية...، فهي معلولة بِعلّة مكوّنها الأساسي الساعي لتحقيق مصلحته دوماً، وهو الإنسان.
قسم الفيلسوف الإيطالي غايتانو موسكا المجتمع إلى قسمين: أقلية منظمة وسماها النخبة، وأكثرية غير منظمة وسماها الجماهير، واتفق موسكا وفيلفريدو باريتو على أن النخبة أكثر ذكاء وحيلة واهتماماً بأمور الحكم وتفوقاً نفسياً وأخلاقياً ومادياً، فهي بذلك القادرة على قيادة الجماهير، والأحق بتلك القيادة من غيرها حتى بدون عملية انتخابية، والتنافس لا يكون إلا بين النخب نفسها على الحكم، بينما تحتاج الجماهير إلى من يقودها فهي غير قادرة على إدارة نفسها، ويتفق ذلك إلى حد ما مع الحديث الشريف: (إنما الناس كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلة) على تفسير القرطبي وابن الأثير.
في عملية اصطفاء تكاد تكون مطابقة لنظرية النخبة تشكلت المعارضة السورية بعد عام 2011 بشكل مواز للحراك الشعبي وغير ناتج عنه بالمعني الدقيق للكلمة. أسهم عدم مرور شخصيات المعارضة السورية باختبار العمل السياسي، بسبب القيود التي فرضها الأسد الأب طوال فترة حكمه، في عدم قدرة الجماهير على الحكم عليها، فتنامى يقين في اللاوعي السوري بكفاءة النخبة السياسية المعارضة الموجودة لتحمل أعباء تلك لمرحلة، أو أدى على الأقل إلى حسن الظن بكفاءتها، هذا من جهة، وبحكم الضرورة التي فرضها شغور التمثيل السياسي للثورة السورية من جهة ثانيةـ لم ينتبه أحد إلى أن الانسياق إلى تطبيق تلك النظرية يبرر سلطة النخبة الحاكمة ويعطيها الشرعية على أساس أنها نتاج طبيعي لهيكل القوة في المجتمع! ولأن أي سلطة تخضع لمؤثرات داخلية وأخرى خارجية كان لا بد من تصريح الجماهير بسلطة النخبة المبادرة لحيازة الشرعية خارجياً، ومنذ ذلك التصريح أخذ الاهتمام بالجماهير ومصلحتها ينحسر تدريجياً حتى غاب نهائياً عن المشهد لتصل المؤسسة السياسية لشذوذ الوقاحة، على رأي أنسي الحاج، وتتحول إلى شكل من أشكال شركات المساهمة.
قسم الفيلسوف الإيطالي غايتانو موسكا المجتمع إلى قسمين: أقلية منظمة وسماها النخبة، وأكثرية غير منظمة وسماها الجماهير، واتفق موسكا وفيلفريدو باريتو على أن النخبة أكثر ذكاء وحيلة واهتماماً بأمور الحكم وتفوقاً نفسياً وأخلاقياً ومادياً
يعتبر هذا مثالاً تطبيقياً مطابقاً بالحرفية للقانون الحديدي لحكم الأقلية (الأوليغارشية) الذي ابتكره الفيلسوف الألماني روبرت ميشيلز في كتابه (الأحزاب السياسية) الصادر عام 1911، إذ يرى أن التنظيمات السياسية (حتى الديمقراطية منها) تتحول، بمرور الوقت، إلى تنظيمات خاضعة لحكم قِلّة من الأفراد يتحكمون في مواردها لخدمة أغراضهم الخاصة. يعزو ميشيلز هذا التحول إلى حتمية التمثيل بسبب الأعداد الكبيرة للشعوب والأحزاب بما يجعل تطبيق ديمقراطية مباشرة (ديمقراطية أثينية) ضرباً من العبث، وما يرافق عملية الحكم والإدارة من ظهور حالة (المختصّين) في أعمال السلطة والمؤسسات مما يرسّخ ضرورة وجودهم، بالإضافة إلى ميل أفراد النخبة إلى التفرد بالسلطة وإلى توريثها إن أمكنهم، ومن طرف آخر إلى الدافع النفسي لدى الجماهير في الانقياد والانضواء تحت حكم قيادة فذّة قوية وربما مقدسة!
هل هناك درك أكثر توغلاً في القاع من تنفّذ أصحاب المصلحة الضيّقة وتسلّطهم، بمنطق الصفوة، على رعية منقادة؟ فلا يعودون مكترثين لرأي عام ولا لردة فعل، وكأن روبرت ميشيلز الذي أيّد بشدة فاشية موسيليني كان على حق! يحضرني هنا ما كتبه فواز حداد: "لتقعَ السلطة بيد جماعة تتضخّم باستمرار، لقد أصبح لها مكانة. ما يشكّل مجتمعاً طارداً لأصحاب القيم والعلم والرأي، إذ لا مكان لهم بينهم. فالزائف مانع للحقيقي، مثلما المنحَطّ مانع للأخلاقي"، وهذا يقودنا إلى فكرة (المطرودون من الانتقال الديمقراطي) كما أنقلها عن المهدي مبروك في توصيفه للواقع السياسي التونسي، إلا أن المطرودين على أنواع ودرجات، فهناك مطرودون كليّاً ومطرودون جزئيّاً، وهناك مطرودون لتضارب مصالح الأقليّة الحاكمة الداخلية فيما بينها، وهناك مطرودون لاختلافهم مع مبدأ حكم الأقليّة. في هذا النزاع بين الفخايدة والمطاريد، كما في الفيلم المصري، يضيع الكتكوت الضعيف (الشعب) الذي لا يملك من أمره شيئاً سوى أن ينصاع لأمر الكبيرة (القلة الجاهلة الحاكمة) ويكون قرباناً في صراع بخس لا يسمو إلى أدنى درجات الطموح الثوري الوطني.
ليس التاريخ إلا ذراً من الازدهار وقيعاناً من الانحطاط، تتوازن فيما بينها كما يتوازن الماء واليابسة؟ لكن الركون إلى حالة الانحطاط يعني الانتماء لها واستحقاقها كما تقول الدكتور مشاعل الهاجري: "وفي كل الأحول، لنتذكر أن الحديث عن طغيان الأغلبية أو حكم الأقلية لا يكون إلا في المجتمعات ذات الوعي بأهمية الأدوات السياسية، ولا أدري إن كان يمكن وصف مجتمعاتنا العربية بذلك. فما ألحظه هو انشغال الناس بشيئين بالدرجة الأولى، وهما شؤون المعيشة والترفيه. في الأمر، حقيقة، ما يذكرني بثنائية "الخبز، الألعاب" panem et circenses؛ هذه العبارة اللاتينية التي ذهبت مثلاً للتعبير عن نمط حياة الشعب الروماني في فترة الانحطاط قبيل انهيار روما".