ليس واقعياً عدم الاعتراف بطبيعة الواقع العربي، والذي يتسم بغياب مشروعٍ عربي نهضويٍ تنمويٍ حقيقي. كذلك، ليس واقعياً عدم القول إن الصراع بين إسرائيل وإيران هو صراع على الهيمنة على المشرق العربي "بلاد الشام والعراق ودول الخليج العربية".
مشروع النفوذ الإيراني بدأ مع استيلاء الخميني وقيادة النظام الديني على الثورة الإيرانية عام 1979، حيث تمكنوا من الوصول إلى السلطة وفرض نظام "ولاية الفقيه". هذا المشروع ارتكز على فكرة "تصدير الثورة" إلى دول الجوار، بهدف توسيع نفوذ إيران الإقليمي، وهو ما يُنظر إليه كمسعى لإعادة إحياء دور إيران كقوة إقليمية ذات تأثير واسع.
مشروع الهيمنة الإسرائيلي ربما تحدّد بصورته الأولى عبر "العلم الإسرائيلي"، الذي يشير إلى رسم الخطين الأزرقين المحيطين بنجمة داوود السداسية فيه إلى حدود إسرائيل "من الفرات إلى النيل"، وفق الأسطورة الصهيونية التي تقول إن الأراضي التي كانت تحت سلطة الملك داوود هي الأراضي التي يحدّها نهرا الفرات والنيل.
مشروع إيران بالهيمنة على المنطقة العربية يهدّد فعلياً دول المنطقة، وتحديداً دول الخليج العربي الغنية، كما يهدّد "مشروع الشرق الأوسط الجديد" الإسرائيلي، الذي طرحه من قبل رئيس إسرائيل شمعون بيريز.
غياب مشروع نهضوي تنموي عربي هو من سمح بما سماه "الخميني" "تصدير الثورة"، إلى البلدان العربية التي يوجد فيها مكونات دينية مشابهة، وذلك لتحويلها إلى تبعيات جغرافية للمركز "الفارسي".
غياب مشروع نهضوي تنموي عربي متكامل أتاح فرصة للنظام الإيراني بقيادة الخميني لاستغلال الفراغ السياسي والاجتماعي في المنطقة. بدأ النظام بضخّ المال السياسي إلى الدول العربية، مستهدفًا بشكل خاص المكوّن الشيعي فيها. ترافق ذلك مع حملة فكرية وثقافية واسعة النطاق هدفت إلى التأثير على الهوية المذهبية، وتحفيز التحوّل من المذهب السني إلى الشيعي. الهدف النهائي كان تعزيز الولاء للسلطة السياسية والدينية الإيرانية، المتمثلة في مفهوم "ولاية الفقيه"، مما يخدم استراتيجية توسيع النفوذ والسيطرة.
حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي تعد فرع الإخوان المسلمين في فلسطين، وجدت نفسها في حالة صراع سياسي مع الأنظمة العربية، التي تريد المحافظة على كينوناتها، سواء الأسر الحاكمة أو الحكومات التي وصلت إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية.
المقاومة التي تقودها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ضد إسرائيل واجهت غياب دعم حقيقي ومستدام من الدول العربية، خاصة دول الخليج الغنية. هذا النقص في الدعم العربي دفع الحركتين إلى التوجه نحو إيران، التي تتبنى نظام "ولاية الفقيه"، بحثًا عن مصادر دعم مادي وعسكري لتعزيز صمودها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
إيران وجدت في حركات الإسلام السياسي الفلسطيني مدخلاً للهيمنة على القرار الفلسطيني من خلال شعار "تحرير القدس" وتشكيل ما أُطلق عليه "فيلق القدس"، الذي لم يخض منذ تأسيسه أي معركة مع إسرائيل لتحرير المدينة المقدسة.
تزويد إيران لحركتي حماس والجهاد الإسلاميتين بالسلاح والمال كان غايته الضغط على الغرب وإسرائيل عبر هذه الحركات. فهي ليست في وارد حرب مباشرة مع الكيان الإسرائيلي، ولذلك كانت وما تزال تدعم الحروب بالوكالة عبر هذه المجموعات، سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق أو اليمن.
الأذرع التي أوجدتها إيران ودعمتها في البلدان العربية مثل "حزب الله اللبناني"، و"الحشد الشعبي الشيعي العراقي"، و"ميليشيا الحوثي في اليمن"، إضافة إلى ارتهان النظام الأسدي لحكومة ملالي إيران، كانت غايتها الهيمنة السياسية والاقتصادية على بلدان المنطقة العربية، خدمة لمشروعها دولة "فارس الكبرى"، والتي يمكنها التحكم بطريق الحرير القديم والجديد.
مشروع إيران بالهيمنة على المنطقة العربية يهدّد فعلياً دول المنطقة، وتحديداً دول الخليج العربي الغنية، كما يهدّد "مشروع الشرق الأوسط الجديد" الإسرائيلي، الذي طرحه من قبل رئيس إسرائيل شمعون بيريز.
مشروع إسرائيل يقوم على مبدأ أن إسرائيل هي الرأس والعقل الذي يدير المنطقة العربية، وأن البلدان العربية هي من توفّر الثروات المالية الناتجة من تصدير النفط والغاز، ومن توفّر للمشروع اليد العاملة غير المكلفة.
المشروع الإيراني يشكل أيضا خطرا على الدول والشعوب العربية وأنظمتها السياسية، لأنه يريد الهيمنة السياسية والدينية والاقتصادية عليها.
في ظل غياب مشروع نهضوي تنموي عربي شامل، تجد بعض الأنظمة العربية نفسها في موقع البحث عن شركاء لحماية أمنها. هذا الوضع أدى إلى التطبيع مع إسرائيل، التي تُعتبر تهديدًا سياسيا وأمنيا تاريخيا لشعوب المنطقة، لكنها في الوقت ذاته لا تمثل خطرا أيديولوجيا دينيا مباشرا يهدف إلى تغيير هوية الشعوب.
على الجانب الآخر، يُنظر إلى المشروع الإيراني على أنه أكثر شمولية وخطورة في تأثيره على الدول العربية، حيث يسعى إلى الهيمنة السياسية والدينية والاقتصادية، ما يهدد استقرار الأنظمة وهويات الشعوب.
كلا المشروعين، الإسرائيلي والإيراني، يحمل كوارث كبيرة للمنطقة، وإن اختلفت طبيعة كل منهما. لذا، يبقى غياب مشروع عربي جامع ومتوازن هو الثغرة الكبرى التي تستغلها الأطراف الإقليمية لتحقيق مصالحها على حساب أمن واستقرار المنطقة.
الخاسر الوحيد في هذه الحروب هو شعوب المنطقة، وهذا ما يجب أن تعيه قواها السياسية الوطنية والثورية الحقيقية.
إذاً، الصراع الحقيقي القائم الآن ويأخذ صيغة "كسر العظم"، هو صراع بين مشروعين (الإسرائيلي والإيراني الفارسي)، وهما مشروعان لا يخدمان الشعوب العربية وتطورها الحضاري. بل هما يقومان على إبقاء هذه الشعوب قيد تبعيتها للأجنبي الأقوى، وبالتالي يمكن القول فيهما إنهما مشروعان مدمران لقوة هذه الشعوب وثرواتها، لأن حكوماتها ليست في وارد حمل مشروعٍ نهضوي تنموي حقيقي، لسبب أن مشروعاً كهذا سيكون ضد مصالح الأسر الحاكمة أو الأنظمة الانقلابية الحاكمة.
حرب إسرائيل، وفق هذه الرؤية، تخدم أنظمة الحكم السياسية العربية الخائفة من إيران وسطوتها، وتخدم مقولات الأسطرة الصهيونية التي قامت دولة الكيان الإسرائيلي عليها، أي إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل كما يوضح ذلك علمها.
الأنظمة العربية التي تريد تخفيف أكثر ما يمكن من الخطر الإيراني عليها، ليس مستبعداً أن تقدّم العون المالي للحرب الإسرائيلية ضد "محور المقاومة والممانعة" الذي تتزعمه إيران. حيث هي أنظمة تستفيد أيضاً من شنّ إسرائيل حربها على أذرع إيران، التي تحدثنا عنها في هذا المقال، لأنها أذرع تستخدم الأيديولوجية الدينية الإسلامية، والتي ترى في هذه الأنظمة أنظمة معادية لدين الله وسنّة رسوله.
وهناك من يعتقد بأن دولاً خليجية تقوم بدعم المجهود الحربي الإسرائيلي، الذي يعمل على اجتثاث الوجود الإيراني في البلدان العربية، ليحل كنفوذ سياسي بدلاً منه.
مصلحتا الأنظمة العربية وإسرائيل التقتا في مشروع طرد إيران من المنطقة العربية وتدمير أذرعها، وهذا يبعد الخطر عن هذه الأنظمة كما ترى ذلك. وهذا يفسّر محاولة هذه الأنظمة إبعاد نظام أسد عن محور إيران مقابل تقديم مساعدات وضمانات في التخفيف من مسؤوليته في ارتكابه لجرائم حربٍ وجرائم ضد الإنسانية ضد الشعب السوري.
لكنّ نظام الأسد ليس في وارد الامتثال لفكّ ارتباطه بمحور إيران، وصمته عما يجري لأذرع إيران في لبنان وغزّة سببه ببساطة أنه ليس قادراً بالمعنى الحقيقي على ذلك. فإيران وأذرعها في سوريا قادرة في أي لحظة على اغتيال رأس النظام، لا بل قادرة على قيادة انقلاب عسكري عليه.
الخاسر الوحيد في هذه الحروب هو شعوب المنطقة، وهذا ما يجب أن تعيه قواها السياسية الوطنية والثورية الحقيقية.