إن مسألة تقييم الآثار الاقتصادية السلبية والإيجابية للاجئين على المجتمعات المستضيفة هي محل جدل كبير بين الباحثين. هناك من يرى في وجود اللاجئين آثاراً إيجابية وهناك من يرى فيهم آثاراً سلبية وطرف ثالث يرى فيهم آثارا مختلطة بين السلبية والإيجابية، وهذه الفئة الأخيرة هي الأكبر. ورغم أن الباحثين مالوا إلى فكرة أن هناك فئات في المجتمع يمكن أن تخسر من وجود اللاجئين، وهناك فئات يمكن أن تحقق مكاسب من ذلك، لكنهم لم يستطيعوا أن يحسموا الجدل حول صافي حصيلة أثر استضافة اللاجئين على الاقتصاد ككل فيما إذا كان سلبياً أو إيجابياً.
هناك نقطة مهمة تساهم بشكل حاسم في تشكيل الرؤى حول مسألة الأثر الاقتصادي للاجئين هي المقاربة النظرية التي يعتمدها المعنيون في تقييم ذلك الأثر. لدينا هنا مقاربتان:
المقاربة الأولى إنسانية ترى في اللاجئ حاجة. أي أن اللاجئ ترك بلاده وممتلكاته وراءه وهو بحاجة للغذاء واللباس وبقية المواد الضرورية لاستمرارية الحياة. وهذه المقاربة أميل إلى إنتاج التقييم السلبي لأثر اللاجئين.
اللاجئ على المدى القصير هو حاجة لكنه يمكن أن يتحول إلى مورد على المدى المتوسط والطويل بعد السنة الأولى من اللجوء
المقاربة الثانية تنموية ترى في اللاجئ مورداً يمكن استثماره حيث يحقق منافع اقتصادية للبلد المستضيف. فهو يحمل رأسمالاً بشرياً يمكن بما يمتلكه من قدرة على العمل وخبرات ومهارات وتعليم سابق. وقد يحمل اللاجئ معه أموالاً يمكن أن تستثمر. وهذه المقاربة تميل في الغالب إلى إنتاج تقييمات إيجابية مشروطة بسياق الاستضافة وسياسات البلد المستضيف.
وفي الواقع إن المقاربتين تحتملان جوانب من الحقيقة. فاللاجئ على المدى القصير هو حاجة لكنه يمكن أن يتحول إلى مورد على المدى المتوسط والطويل بعد السنة الأولى من اللجوء، وهنا يكون التحدي مطروحاً على السياسات الحكومية في إدارة شأن اللجوء بطريقة حكيمة آخذة في الاعتبار ظروف الاقتصاد المحلي والموارد التي يمتلكها اللاجئون.
للتوضيح أكثر وبمقاربة المسألة من المنظورين الإنساني والتنموي معاً وفي إطار علم الاقتصاد الجزئي يمكن أن نحاول تتبع آثار استضافة اللاجئين السلبية والإيجابية مع عدم الادعاء بإمكانية حسم الحصيلة الصافية. إن اللاجئ كحاجة وكمورد يمكن أن يؤثر على نوعين من الأسواق هما سوق العمل وسوق المنتجات في البلد المستضيف من ثم يؤثر على أهم مؤشرين في تقييم حالة الاقتصاد هما البطالة والتضخم.
في سوق العمل حيث يتفاعل عرض العمل والطلب عليه وتتحرك الأجور بموجبهما يمثل اللاجئون زيادة جديدة في عرض العمل. وهذا يعني في البداية على الأقل أن معدلات البطالة سترتفع فوق المستويات ما قبل موجة اللجوء وأن الأجور ستنخفض.
لكن العديد من التفصيلات المهمة التي لا بد من الإشارة لها.
أولاً: إن معظم اللاجئين يعملون في سوق العمل غير الرسمية والمهن ذات المهارات المنخفضة ومن ثم فإن المتضررين هم المواطنون من ذوي المهارات المنخفضة والعاملين في الأعمال غير الرسمية باعتبار أن اللاجئين سينافسونهم بخفض الأجور وقبول شروط عمل أقسى. في الوقت نفسه فإن وجود اللاجئين وما يستجرونه من مساعدات دولية ونفقات محلية وظهور منظمات ومؤسسات تدير شأن اللاجئين يوفر فرص عمل كثيرة ومجزية للمواطنين في القطاع الرسمي.
ثانياً: ومع تقدم الزمن يتحول كثير من اللاجئين إلى رواد أعمال وأصحاب شركات مستفيدين من مهاراتهم البشرية وما يمتلكونه من أموال موفرين كثيرا من فرص العمل للمواطنين.
ثالثاً: إن اللاجئين يمثلون طلباً على المنتجات التي يستهلكونها وهذا يشجع كثيرا من الشركات على التوسع في الإنتاج لتلبية ذلك الطلب وهذا يعني أيضا توسعاً في فرص العمل المتاحة للمواطنين.
في سوق المنتجات يتوقع في البداية أن يرتفع الطلب على السلع الغذائية والألبسة وقد ترتفع أسعارها متسببة بالتضخم لكن مع تدفق المساعدات من مختلف الأطراف يمكن أن يتحول الأثر بالاتجاه المعاكس تماماً ويزداد عرض السلع الغذائية والألبسة وتنخفض أسعار تلك السلع. بالنسبة للعقارات والسكن ونظراً لضعف مرونة السوق فإنه ومع زيادة الطلب على السكن من قبل اللاجئين فإن أسعار الإيجارات والعقارات ترتفع كثيراً. ويبدو أنه مع تقدم الزمن واستخدام قوة العمل اللاجئة الرخيصة يمكن أن يسبب ذلك انخفاض أسعار كثير من السلع.
ما الذي يحدث في تركيا؟
استقبلت تركيا عددا ضخما من اللاجئين السورين يقدر بنحو 3.6 ملايين لاجئ ومن الواضح أن إدارة مثل هذا الحجم من اللجوء ليس أمراً سهلاً أبداً. وهو تحد كبير من الضروري مقاربته بمزج المنظورين الإنساني والتنموي والابتعاد عن الاستخدام السياسي لهذه المسألة لأن ذلك ينتج كثيرا من الأفكار الخاطئة التي يتم تداولها حول أثر اللجوء على تركيا.
إن أثر اللاجئين اقتصادياً على المجتمع التركي لا يخرج عند الآلية التي أشرنا إليها أعلاه. وبفرض توخي المصداقية والموضوعية فإنني سأشير إلى أبرز نتائج الدراسات التي أجراها الباحثون الأكاديميون الأتراك في هذا المجال:
أولاً: بالنسبة للبطالة هناك دراسات أثبتت ارتفاع البطالة نتيجة استضافة اللاجئين بشكل طفيف في حين دراسات أخرى لم تعثر على ذلك الأثر. ومن حيث توزيع النتائج بين الفئات توصلت الدراسات إلى ارتفاع البطالة وانخفاض الأجور في القطاع غير الرسمي الذي يستوعب نحو 30% من العاملين في الاقتصاد. وتبين أيضاً بأن فرص العمل زادت في القطاع الرسمي حيث إن هناك عدداً لافتاً من العاملين انتقلوا من القطاع غير الرسمي إلى القطاع الرسمي. ويمكن لنا أن ندعم فكرة الأثر الطفيف على البطالة إن أخذنا في الاعتبار انتقال مبالغ ضخمة من رأس المال السوري إلى تركيا والعدد الضخم من الشركات التي تم تأسيسها من قبل السوريين في تركيا.
ثانياً: هناك دراسات أشارت إلى أنه بعد نضوب مصدر العمالة الرخيصة القادمة من جنوب وجنوب شرقي تركيا بسبب مشروعات الري الضخمة في تلك المنطقة والتطور الاقتصادي الاجتماعي العام لتركيا فإن العمالة السورية تشكل المصدر البديل للعمالة الرخيصة. وهذه العمالة الرخيصة هي عنصر أساسي في القدرة التنافسية للاقتصاد التركي على المستوى العالمي من ثم قدرته على التصدير.
ثالثاً: بالنسبة لارتفاع الأسعار بشكل عام أي التضخم لم يعثر الباحثون على أثر قوي للاجئين على التضخم رغم أن ارتفاع أسعار السكن كان لافتاً. لكن يبدو أن تدفق المساعدات الدولية وتوفر العمالة اللاجئة الرخيصة ساعد على خفض أسعار بعض السلع مما خفض من أثر أسعار السكن على التضخم باعتبار التضخم مؤشرا وسطيا لأسعار عدد من السلع.
رابعاً: من حيث الأثر الصافي على مجمل الاقتصاد التركي توصل أحد الباحثين باستخدام جداول المخرجات - المدخلات والمقارنة بين سيناريو وجود اللاجئين وسيناريو عدم وجودهم. تبين أن الناتج المحلي التركي هو في سيناريو وجود اللاجئين أعلى بأكثر من 1 مليار دولار سنويا بالمقارنة مع سيناريو عدم وجود اللاجئين وهذا يؤيد فكرة أن الأثر الصافي للاجئين هو إيجابي على الاقتصاد ككل.
السياسات الحكومية هي المعول عليها في تنمية الآثار الإيجابية للاجئين فهي التي يمكن أن تتيح الأجواء المناسبة لتنمية قدرات اللاجئ وتوظيفها والاستفادة منها
وبعد لا يمكن حتى الآن أن نحسم تماماً مسألة صافي الأثر الإيجابي أو السلبي. لكنني أميل لترجيح الأثر الإيجابي باعتبار الإنسان اقتصادياً هو مورد وحاجة وقد ثبت تاريخياً أنه مع توفر الظروف المناسبة يمكن أن ينتج أكثر مما يحتاج بكثير.
وعليه فإن السياسات الحكومية هي المعول عليها في تنمية الآثار الإيجابية للاجئين فهي التي يمكن أن تتيح الأجواء المناسبة لتنمية قدرات اللاجئ وتوظيفها والاستفادة منها. ويمكن هنا أن أشير إلى مثال بسيط غير حصري. طالما أن الضرر يتركز على الفئات الفقيرة في قطاع العمل غير الرسمي والنفع يتركز في القطاع الرسمي فلا بد من سياسات تشجع اللاجئين وتساعدهم على دخول القطاع الرسمي والمنافسة فيه. وهنا يمكن للحكومة أن تسهل إجراءات معادلة الشهادات السورية التي تقترب الآن وبالنسبة لبعض الشهادات من الاستحالة وتساعد حملة الشهادات أن ينافسوا في سوق المتعلمين بدلاً من منافستهم الحالية للعمال العاديين. سينتج عن ذلك تخفيف الضغط عن سوق العمل غير الرسمي وتكثيفها في السوق الرسمي الذي هو أقدر على تحمل آثار ذلك وهو مستفيد في الوقت نفسه من وجود اللاجئ.