يشكل تعدّد انتماءات الفرد وتشابكاته، في عصرنا الحالي، وجهاً من وجوه الحياة المعاصرة، بعد أن غدت قنوات الاتصال معرفياً وبشرياً مفتوحة وغير قابلة للتقييد، نتيجة ثورة الإنترنت وما تلاها. وبات الجلوس في بيت منعزل، أو بيئة منعزلة، أو الانكفاء على الذات أمراً صعباً، إضافة إلى وجود منزع فكري عالمي يتعلق بتغير فلسفة الوجود من الانغلاق نحو الانفتاح والتعرف إلى ثقافة الآخر، يحرك ذلك مصالح اقتصادية ومفاهيم فلسفية جديدة.
ليس لجوء المواطنين من البلاد العربية وما جاورها، أو هجرتهم نحو الغرب حدثاً جديداً، فقد سبق أن حدثت موجة من النزوح في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نحو أميركا الجنوبية، وفي الخمسينيات والستينيات كذلك كانت هناك موجة استقدام عمالة بسبب حاجة أوروبا للأيدي العاملة بعد الحرب العالمية الثانية (خاصة من المغرب وتركيا)، إضافة إلى عدد كبير من حالات من اللجوء الفردي؛ التي كانت بأحد دافعين رئيسيين هما: البحث عن فرصة أفضل، أو الاضطهاد السياسي أو الاجتماعي أو الفكري (نحو 2000 سوري لجؤوا إلى هولندا حتى عام 2012 مثلاً) ،وبرزت في أواخر القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين موجات جديدة من اللجوء إلى أوروبا بسبب الحروب الأهلية والإقليمية والدولية كما في الحالة "العراقية والسورية"، أو بسبب الفقر والجوع والجفاف والتغير المناخي كما في حالة "الصوماليين والأريتيريين".
ما إنْ يحط أولئك اللاجئون أقدامهم في الديار الجديدة حتى يسمعوا بمصطلح جديد على أسماعهم وهو (الاندماج) وضرورته وآلياته، وهذا يحمل جانبيْن: الأول أنهم اعتادوا أن يكونوا متروكين للإهمال والوجع بحيث يجب أن يواجهوا صعوبات الحياة لوحدهم، والثاني أنهم يجدون مفهوماً جديداً للدولة، غير مألوف، فقد اعتادوا على دولة تجبرهم على ما يقومون به. أو لنقل إنَّ مفهومهم للدولة تشكل في إطار علاقة قسرية، إكراهية، الدولة تأمر والمواطنون ينفذون، بكل حمولات القسر والإكراه وما يرافقها، خاصة أنهم الجيل الأول أو الثاني بعد تشكيل الدولة الوطنية، على العكس من المجتمع الأوروبي الذي صارت الأجيال التي عاشت في كنف الدولة أكثر من ذلك وقد تصل إلى سبعة أجيال أو أكثر.
جسور الاندماج التي تحاول الدولة الجديدة أن تمدها إليهم غير مألوفة في حياتهم، إضافة إلى الحرص على إبقاء قنوات الاتصال معهم مفتوحة بحيث يمكنهم أن ينقلوا ما يمر معهم إلى جهة معنية ما.
وبمرور الأيام، ونتيجة كون المفاهيم التي تمر في حياتهم الجديدة مختلفة وجديدة ومغرية وصادمة بالمعنيين الإيجابي والسلبي، يبرز سؤال الهوية عند اللاجئين بصفته أكثر الأسئلة صعوبة وحضوراً، إذ يبدؤون بالشكوى من تشتت في الهوية وحالة ضياع، نتيجة ظروفهم التي حلت بهم، يجدون أنفسهم أمام خيارات مرة في معظمها، لكون كل منها له ثمنه الباهظ، ليس لديهم القدرة على المحافظة على ما تبقى من هويتهم بالطريقة التي يريدونها، وليس لديهم القدرة على مقاومة إغراءات الحياة، أو التحكم بحدود الاندماج والانصهار وفرملته، وجدوا أنفسهم مثل من يقعان في علاقة حب بظروف غير ملائمة للطرفين، لا هما قادران على الخروج منها، ولا هما يستطيعان الاستمرار بها دون أثر الظروف المحيطة.
ويثير موضوع علاقة اللاجئ مع المجتمع الجديد أسئلة عدة حول إدارة العلاقة وآلياتها وطرائق تفعيلها والموقف منها. ويلاحظ المتابع لموقف اللاجئين من العلاقة مع المجتمع الجديد أنها تظهر عبر ثلاثة أشكال رئيسية هي: الانصهار والاندماج والانعزال، ولكل شكل من أشكالها أسبابه وطرائقه وقضاياه الاجتماعية والدينية والاقتصادية.
ورغم أن الحكومات- ومنها الحكومة الهولندية- تطلق البرامج المتعددة لإدماج اللاجئين الجدد حرصاً على أمن مجتمعها، إلا أن تلك البرامج يشوبها كثير من المشكلات، لذلك تحاول أن تطورها كل عقد من الزمن تقريباً (2005-2013-2022) مراعاة لتغير نوعية اللاجئين، وتجدد طبيعة الحياة ذاتها ولأن الحكومات تحصي التفاصيل أولاً بأول وتبدأ بالتغيير وتنظر إلى أن القوانين وجدت لتتغير بما يلائم حياة الناس وتحولاتها.
موقفُ المجتمع المستقبِل من اللاجئين يتعدَّد ويتنوع من حالة القبول والترحيب إلى حالة الخوف والهلع، نظراً لارتباط صورة كثير من اللاجئين باستغلال المجتمع الجديد، خاصة في ظل حالة "الفوبيا" من الإسلام. غير أن معظم الشعوب الأوربية تقبل فكرة اللاجئين لأسباب عدة هي: الجانب الإنساني، والشعور بالحاجة إليهم كيد عاملة، ونظراً لأن الدولة ومؤسساتها تحمل اللاجئ ولا يشعر المواطن بأثرهم في حياته من حيث النقص أو تهديد نمط الحياة الذي يعيشه.
موقفُ المجتمع المستقبِل من اللاجئين يتعدَّد ويتنوع من حالة القبول والترحيب إلى حالة الخوف والهلع، نظراً لارتباط صورة كثير من اللاجئين باستغلال المجتمع الجديد، خاصة في ظل حالة "الفوبيا" من الإسلام
وصورة كل من اللاجئين أو الحكومات أو المجتمع الهولندي لدى الآخر لها أسبابها ومسوغاتها ومنطقها. خاصة أن تجاوز المشكلات أو كونها صغيرة أو الانشغال القضايا الكبرى غير موجود ها هنا، لأنه يضرّ كل الأطراف، وعادة ما يفضلون مناقشة كل تفصيل من تفاصيل الحياة، وتسليط الضوء عليه ليتم البحث له عن حلول، ولن يكون ذلك إلا بتكاتف كل الأطراف، معتمدين على بحوث ودراسات واستشارات وحوارات ونقاشات تشاركية.
والموقف من الآخر (اللاجئ) تعبير عن رؤية فكرية أو موقف، أو شعور، يثير سؤالا عن كيفية استثمار هذه الطاقات الجديدة، وتحويل النظر إليها من كونها عبئاً على المجتمع الجديد إلى كونها طاقة إيجابية، يمكن أن تمنح الدول حالة متجددة في الجانب الاجتماعي والاقتصادي خاصة أن المجتمعات الأوربية مجتمعات قارة وهادئة، في حين تلك الطاقات الجديدة تتوثب لبدء حياة جديدة مما يمنح الدول الأوربية طاقة مختلفة بحاجة لمواءمة بين مجتمع ساكن وقادمين جدد تغلي روح التغيير واقتناص الفرص في رؤوسهم. ولعله من حق المجتمعات الجديدة على اللاجئ ألا ينظر إليها على أنها فرصة مؤقتة لتحسين وضعه ثم يعود إلى بلده، بل يجب أن يشارك في بناء تلك المجتمعات والالتزام بمنظوماتها القانونية وحق العودة مكفول متى ما أراد ذلك.
وبما أن اللجوء والعيش في المجتمع الجديد صار أمراً واقعاً لكلا الطرفين، فمن الأفضل لهما معاً ألا يعتقد كل طرف منهما أنه في المكان الصحيح وعلى الآخر أن يمشي نحوه، بل أن تكون الخطوات متبادلة من الطرفين، حفاظاً على أمن المجتمع واستقراره، وكذلك على حياة مستقرة للاجئ الجديد، لكن لا بد من الانتباه إلى أن القدرة على الاندماج أو قبول القادم الجديد تدخل فيها عوامل عدة من مثل الخلفية الفكرية والثقافية والاجتماعية والتعليم وتكوين الشخصية من حيث المرونة والمحافظة والمهنة ودور الدين في حياة الفرد بين المجتمع الجديد والقديم. إضافة إلى دور مركزي "للفئة العمرية" إذ أثبتت التجارب والدراسات أن الأقل عمراً وذاكرتهم خالية من الماضي أسرع اندماجاً وأقل غلبة للمجتمعات الجديدة. وفي الوقت نفسه فإن ما تقدمه المجتمعات الجديدة من أمن اجتماعي ونفسي تقوده المنظمات والجمعيات والأطر القانونية الراقية يمكن توظيفه ليكون عاملاً إيجابياً في حياة اللاجئ.
يحاول كل من علوم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والقانون والدين ترك بصمتها في موضوعات اللجوء والعلاقات بين المجتمعات المستقرة والقادمين الجدد من خلال الانشغال بفكرة الحدود والفروقات بين الاندماج والانصهار والانعزال وطرح أسئلة كبرى حول ذوبان الهوية أم تعدّدها، وصراع الحضارات أم تكاملها، يحاولون الوصول إلى صيغة توافقية، لا تحدث هزات عنيفة، غير أن الواقع يؤكد أن التحكم بها وضبطها أمر صعب جداً لأنه يتعلق بحالة كل فرد والظروف التي يمر بها وخلفيته التي تشكل في ضوئها.
تجربة اللجوء تجربة فيها إغراءات كثيرة وأوجاع كثيرة، وتفاصيل لا تنتهي، مهما بذل الفرد من جهود للتحكم بتفاصيلها، وفي مراحل كثيرة منها يُضطر لمعارضة بيت المتنبي بالقول:
"ما كل ما يتمنى اللاجئ يدركه
يجري اللجوء بما لا تشتهي السفن
نحن الضحايا ونحن البحر والسفن"
وفي لحظة تحدٍ عابرة في حياة رغيدة، يتذكر قول محمود درويش:
بمشيئة الملّاح تجري الريح والتيار يغلبه السفين..
يقرأ اللاجئ هذا النص فيقول: أريد أن أرتاح قليلاً من الحرب والريح والسفينة.