الغزاوي والغزاوية

2023.10.14 | 06:12 دمشق

الغزاوي والغزاوية
+A
حجم الخط
-A

عبر قناة على اليوتيوب، حين كان اللجوء السوري يحبو عام 2016، طرح سؤال مهم على عدد كبير من أطفال غزة حول إمكانية استضافة مليون لاجئ سوري، فأبدى الجميع استعدادهم وقدرتهم وترحيبهم، لمساعدة السوريين، لم يكترث الأطفال الغزاويون بصغر مساحة غزة، أو ظروفها الصعبة، بل حاججوا صاحب القناة الذي اتخذ دور المُجادِل للأطفال الذين تحدثوا عن روابطهم مع السوريين وهي روابط الإنسانية والعروبة والدين ووحدة المصير!

ها هم اليوم سوريون كثيرون يتابعون ما حدث في غزة، يقولون: العين بصيرة واليد ليست قصيرة، نحن مع إخوتنا في غزة روحاً ومالاً ووحدة مصير، وحدها سلطات الأمر الواقع تكتفي بالجعجعة، يقول سوريون اليوم وأصابعهم بين شفاههم ندماً: الحل ليس في اللجوء أو ترك الأوطان بل في الصبر والمقاومة، ومن مثل غزة تعطي دروساً في المقاومة!

أتبادل مع جارتي الهولندية المتعاطفة مع فلسطين، فتقول لي: غزة مدينة الصبر، إن كان هناك من عاصمة للصبر في العالم والقدرة على التحمل فإنها غزة، العيش في أقل الممكن، غزة ستصبح حالة غير مسبوقة في العصر الحديث بشظف العيش. ومثلما يذهب المقتدرون للسياحة في المدن الأكثر ترفيهاً، فإنهم سيذهبون في وقت ما للسياحة التعليمية وتنمية النفس البشرية نحو غزة ليجربوا الصبر بصفته حالة تخلص من الرفاهية والعيش الرغيد.

الشتات والحرمان هما السمتان الأساسيتان للفلسطيني وهما جزء من حياته، ومعجمه، وتفاصيله، ويجب أن يكون لكل فلسطيني منهما نصيب وفقاً لإدوارد سعيد في كتابه (غزة أريحا سلام أميركي) حيث عد اتفاقات أوسلو نهاية حلم الدولة الفلسطينية غير المقطعة الأوصال.

يتعجب الغزاوي والغزاوية اليوم حين يسمعون بتشبيه غزة أو الكثير من أهاليها بالتنظيمات المتشددة، فهم أهل الأرض وروحها، فكيف يمكن لمن يدافع عن نفسه أن يشبه بالوافد المحتل أو المتشدد القادم من أرض أخرى؟

لا يتعجب الفلسطيني اليوم من حجم المساعدات غير المحدودة التي تقدم لإسرائيل لإبادة الغزاويين، فقد قدم من قبل 5 بلايين دولار إبان إعادة نشر قواتها في تسعينيات القرن العشرين. ليس الغرب بحاجة إلى حجج جديدة كي يقدم المساعدات لإسرائيل، يقوده دافعان رئيسيان: التكفير عن ذنوبه بمساعدة إسرائيل على أرض الآخرين وتاريخهم، وكونها موطئ قدم للغربيين في قلب الشرق الأوسط والمنطقة العربية تنفذ ما يتفقان عليه وتمنع "خطر المسلمين والعرب عنهم". وإن كان هذا التفسير المكرر موضع استغراب، فالسؤال هو: كيف سكت الغرب عن مقتل نحو مليون سوري ولم يسدد رصاصة للأسد، وكانوا يقولون لنا: للأسف ما باليد حيلة! في حين أنهم اليوم يصفون أهل غزة بأبشع الأوصاف نتيجة مقتل مئات من الإسرائيليين والغربيين، علماً أن هذه المقارنة لا تسوغ مبدأ قتل المدنيين لأنه مرفوض كلية إن كان شخصاً أو مليوناً!

يتعجب الغزاوي والغزاوية اليوم حين يسمعون بتشبيه غزة أو الكثير من أهاليها بالتنظيمات المتشددة، فهم أهل الأرض وروحها، فكيف يمكن لمن يدافع عن نفسه أن يشبه بالوافد المحتل أو المتشدد القادم من أرض أخرى؟ كيف لمن يبحث عن سبل الحياة البشرية أن يقارن بمن جاء يبحث عن تحقيق معتقد ديني، وهاهم أهل غزة يدفعون ثمن بطش المحتل والتنكيل بأكبر سجن بشري عرفه التاريخ، لماذا يتم التركيز على النتيجة وتنسى الأسباب، ما هو الفعل ورد الفعل!

حلم إسرائيل كما يرى إدوارد سعيد هو التخلص من غزة، سيكون يوماً سعيداً في حياتها، لو فتحت مصر الحدود أو تم تهجير الغزاويين، أو هربوا نحو البحر، أو إلى أي مكان آخر، تريد كسر عزيمة الفلسطينيين عبر غزة، تحلم بترانسفير جديد، وهي التي بنت نمط الدولة على العسكرة وتهجير كل ما يزعج، وشجعت دوائر مخابراتها التهجير الذي حدث في سوريا للمعارضة من منطقة إلى منطقة أخرى، لأن إقرار هذا المبدأ في منطقة الشرق الأوسط يعني من جملة ما يعني قوننة له، ليغدو أسهل الحلول عند المستبدين والمحتلين وهما يتفقان بالأهداف ويختلفان بالشعارات، هدفهم كسر إرادة الإنسان وصناعة منظومة قيمية جديدة، جوهرها الإكراه والقسر!

منذ فترة قصيرة جلست مع ابنتي عدة جلسات أشرح لها الوضع في غزة وتاريخها وكتابها ونمط حياتها، حيث كانتْ قد كلفت من منظمة هولندية هي منظمة (احفظوا الأطفال) لتكون دليلاً لطفلات غزاويات سيأتين من هناك، لكي يشرحن في مقر البرلمان الأوروبي الوضع هناك، وهو وضع لا يخفى على أحد لكن المشاهدة العيانية والسماع من أصحاب الوجع له أثر مختلف، غير أن إسرائيل رفضت في اللحظة الأخيرة منح الطفلات الغزاويات وثيقة السفر اللازمة، ومتى كان المحتل أو المستبد يسمح لضحيته بالتعبير عن صوتها!

لم يغب الكتاب والكاتبات الغزاويات عن المشهد رغم الحصار، فها هو عاطف أبو سيف يدخل القائمة الطويلة للبوكر 2018 وها هو الروائي يسري الغول يسرد جوانب من حياة الناس هناك عبر: غزة 87، أما نهيل الشرافي فتعطي مثالاً عن المرأة الخرساء لكنها تتكلم روائياً عبر تجربة نادرة، فيما يخصص عبد الكريم السبعاوي جانباً كبيراً من رباعيته الملحمية الروائية أرض كنعان لغزة وحكاياتها، ويتخذ الروائي ربعي المدهون في روايته "السيدة من تل أبيب" غزة مكاناً لها، سارداً الوجع الغزاوي ورحلة المعاناة اليومية والانتقال والترحال والتهجير والحضور والغياب، وهو ما يفعله كذلك الكاتب (ماتريس) في روايته قبر في غزة  وكذلك ابنة فلسطين سلمى دباغ في سردها بالإنكليزية (خارجها) أي غزة حين يحاول العالم أن يجعلها خارج الحياة والاهتمام، في حين تسرد رواية "الموتى يبعثون في غزة ليسري الغول جوانب أخرى من حياة الغزاويين والغزاويات. أما هند جودة الغزاوية فتكتب متمسكة بالحياة: "لا عطش يعلو جبيني، لا حب يهتز تحت جلدي، لا خاصرتي تتشقق، ولا الصبار يرفع أقدامه في وجهي، أنا على خيل الجموح، أمشط شعر الحرية، ترقص الغجرية في ملء قدميها، تهز خلاخيلها وتراود الريح".

والصحفي "جيرالد بوت" يدون جزءاً من تاريخ غزة المعاصر والقديم في كتابه: الحياة على مفترق طرق، حيث إن غزة تستفز عامل الحياة في الإنسان وتمسكه فيها، إذ العيش بأقل الممكن!

ويفصل شفيق التلولي "الفتحاوي" الذي كان في مهمة نقابية منظماتية في دمشق عبر كتابه "نصفي الآخر: حلم في غزة علق على جدران دمشق العتيقة" جوانب من الحياة ومقارنات بين دمشق وغزة تحمل أكثر من دلالة ووجهات نظر مختلفة. أما المستعرب الإسرائيلي الذي كان في مهمة عسكرية في غزة تومار تسيفان فيتحدث عبر كتابه "عميقاً في غزة" عن نمط الحياة هناك من وجهة نظر مستعرب قاتل!

يرفض الغزاويون أن يكونوا حاجة نافلة أو زائدة، ويرفض أهل غزة أن تمر الصفقات التي يعقدها المتاجرون مع عدوهم ومغتصب أرضهم فوق رؤوسهم دون أن يكون لهم دور في تقرير مصيرهم أو مستقبلهم

وبفعل حضور وسائل التواصل الاجتماعي؛ فقد بات الغزاويون والغزاويات يفضلون أن يسردوا تفاصيلهم بأنفسهم، حيث تشير الإحصاءات إلى أن هناك أكثر من مليون ونصف المليون غزاوي وغزاوية يوجدون على وسائل التواصل الاجتماعي، ينقلون من هناك للعالم تفاصيلهم ويومياتهم خاصة عبر موقع (قصتي) الذي يحاول تلوين أيام الحصار والسجن الكبير بالصورة والفرح والإنجاز.

الهوية الغزاوية تتشكل بشكل تدريجي نتيجة تجربة الحرب والعزلة والحصار والجوع والانتظار على المعابر، تتشكل بعيداً عن أجزاء العالم المحيطة بهم، تعجن بالصمود والصبر والاستمتاع بما تتيحه اللحظات الأخيرة، يرفض الغزاويون أن يكونوا حاجة نافلة أو زائدة، ويرفض أهل غزة أن تمر الصفقات التي يعقدها المتاجرون مع عدوهم ومغتصب أرضهم فوق رؤوسهم دون أن يكون لهم دور في تقرير مصيرهم أو مستقبلهم، يحتج الغزاويون على ذلك ليس من أجلهم فحسب، بل من أجل تاريخ البشرية وكي لا يقال: قرروا مصيرنا عبر صفقاتهم ونحن صامتون، بنوا صفقاتهم على دمائنا ونحن صامتون! يريدون أن يتركوا بصمة في التاريخ البشري: لا تصمت عن حقك! قل كلمتك، ولو كان ثمنها روحك كي لا يسجل التاريخ أنك كنتَ صامتاً فيما كانوا يحضرون كفنكَ، كفن قضيتك ودمك وحضوركَ!

لمن لا يريد أن يصدق حكايات الغزاويين والغزاويات، فليقرأ تاريخهم القديم والمعاصر! وقتها سيكتشف حكاية غزة وخصوصيتها!