في تركيا يراهن أنصار السياسة المتبعة حاليا، والتي تنطوي على خفض معدل الفائدة في سياق تضخم مرتفع، على أن ضعف الليرة التركية الناتج عن ذلك سيؤدي إلى تشجيع قطاعي التصدير والبناء بشكل أساسي وهما سيشكلان رافعة للنمو الاقتصادي في الفترة القادمة. ويتم إدارة تلك السياسة بشعارين سياسي وديني ينطويان على شحنة كبيرة من الجاذبية في التحشيد الشعبي. الأول هو الاستقلال الاقتصادي والثاني هو شيطنة الفائدة.
إن درسنا الشعارين من المنظور الاقتصادي، فإنهما ينطويان على كثير من المحاذير بل المخاطر الاقتصادية. لن أتناول هنا موضوع شيطنة الفائدة، وقد أتناوله في مادة أخرى، بل سأركز على موضوع الاستقلال الاقتصادي والعملة الضعيفة. تعتبر الليرة الضعيفة من بين الرهانات الأساسية في السياسة الاقتصادية لمن يرفع شعار الاستقلال الاقتصادي لتركيا. وهناك فعلا قاعدة اقتصادية تقول إن العملة الضعيفة يمكن أن تجعل منتجات البلد صاحب تلك العملة أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق الدولية. وهذا ناتج عن قدرة ذلك البلد على التصدير، أي البيع في أسواق الدول الأجنبية، بسعر أرخص بوحدات العملة الأجنبية. والاستفادة من هذه الميزة يؤدي إلى إحداث أثر إيجابي على الميزان التجاري وميزان المدفوعات ونمو اقتصادي أسرع. لكن المشكلة هنا أن هذه القاعدة مشروطة، بمعنى أن نجاحها يعتمد على توافر ظروف مناسبة لذلك، هذا من جهة، ومن جه أخرى فإن الاستقلال الاقتصادي قد لا يتوافق مع مزيد من الانغماس في الأسواق الدولية تصديرا أو استيرادا. كيف ذلك؟ هذا ما نحاول توضيحه في هذه المادة.
العملة الضعيفة تعني، ارتفاع أسعار المستوردات، وهو ما يعني ارتفاع كلفة السلع المصدرة ومن ثم أسعارها أيضا، وهذا أيضا يعني فقدان القدرة على الاستفادة من العملة الضعيفة
بالنسبة لسياسة العملة الضعيفة فإنها استخدمت بنجاح من قبل عدد كبير من الدول من أجل تشجيع التصدير. في كثير من الأحيان كانت بعض الدول، مثل الصين واليابان، تتدخل في سوق العملات الأجنبية وتبيع عملتها وتشتري العملات الأجنبية، لخفض سعر صرف عملتها وتشجيع التصدير. وغالبا ما كان ينتج عن ذلك معارك خفض العملات المتبادل بين الولايات المتحدة وتلك الدولتين (تسمى أحيانا حرب العملات)، وشكوى الولايات المتحدة بشكل متكرر من أن العملة اليابانية أولا والصينية لاحقا ضعيفة بشكل مصطنع وأن هذه تعتبر سياسة تجارية غير عادلة وتضر بالقدرة التنافسية للمنتجين الأميركيين، بسبب غزو السلع الرخيصة لتلك الدولتين. لكن هناك شرطان أساسيان لنجاح هذه السياسة. الشرط الأول هو استقرار كلفة السلعة المحلية، بمعنى استقرار مستوى الأسعار المحلية، وإن حدث تضخم محلي في الأسعار بسبب سياسة العملة الضعيفة فإن النتيجة هي فقدان الميزة التي توفرها العملة الضعيفة. لأن البلد المعني سيعجز عن الاستفادة منها. الشرط الثاني، وهو مكمل للشرط الأول، هو انخفاض نسبة المكون المستورد في السلع المصدرة. فالعملة الضعيفة تعني، ارتفاع أسعار المستوردات، وهو ما يعني ارتفاع كلفة السلع المصدرة ومن ثم أسعارها أيضا، وهذا أيضا يعني فقدان القدرة على الاستفادة من العملة الضعيفة.
إن أردنا أن نوضح الأمر رقميا. يمكنا إيراد المثال التالي. بافتراض أن تركيا والولايات المتحدة تنتجان سيارة فورد بسعر محلي 10000 ليرة في تركيا و10000 دولار في الولايات المتحدة. وكان سعر الصرف 1 ليرة = 1 دولار. في هذه الحالة لا تستطيع تركيا أن تغزو الأسواق الأميركية بسيارتها لأنها لا يمكن أن تبيع بسعر أقل من السعر الأميركي المحلي (10000 ليرة * 1 = 10000 دولار). لكن لو ضغطت تركيا بطريقة ما على عملتها واستطاعت أن تخفضها إلى 1 ليرة= 0.50 دولار فإنها يمكن أن تنافس السيارة الأميركية المحلية في السوق الأميركية بسعر منخفض جدا هو 5000 دولار (10000 ليرة * 0.50 = 5000 دولار) ويمكن أن تهزم الشركة الأميركية المنتجة في عقر دارها. لكن يجب أن يلاحظ القاريء بأننا افترضنا سلفا عدم تغير سعر السيارة المحلية في تركيا. لكن إن ارتفع سعر السيارة المحلية بسبب التضخم المحلي أو بسبب ارتفاع أسعار المكونات المستوردة فإن النتيجة قد تصبح عكسية. وهذه تتحقق في حال تجاوز التضحم المحلي أو ارتفاع أسعار المكونات المستوردة مقدار الانخفاض في سعر الصرف. أي أننا لو افترضنا أن مستوى الأسعار المحلية ارتفع وأصبح السعر المحلي لسيارة الفورد التركية 25000 فإنها لا تستطيع البيع في السوق الأميركية سوى بسعر 12500 (25000 ليرة *0.50 = 12500 دولار). نتيجة ذلك ستفقد السيارة التركية أسواقها الأجنبية وستغزو السيارة الأميركية السوق التركية.
الركن الأساسي للاستقلال الاقتصادي هو القدرة على التمويل المحلي للنمو الاقتصادي أو الاستثمار. لكن الرهان على التصدير يمكن أن يقوض الاستقلال الاقتصادي
بالنسبة لعلاقة العملة الضعيفة بالاستقلال الاقتصادي فإنه يتوقف على إمكانية الاستفادة منها في تشجيع الصادرات. باعتبار أن الصادرات تخفف من عجز الميزان التجاري أو تحولها لفائض فإنها، بمفهوم الفجوتين (فجوة الميزان التجاري وفجوة الإدخار)، يمكن أن تعزز الادخار المحلي بحيث يتم تمويل الاستثمار من المدخرات المحلية. باعتبار أن الركن الأساسي للاستقلال الاقتصادي هو القدرة على التمويل المحلي للنمو الاقتصادي أو الاستثمار. لكن الرهان على التصدير يمكن أن يقوض الاستقلال الاقتصادي أيضا، باعتبار أنه يجعل الاقتصاد المحلي يعتمد في محرك أساسي من محركات نموه على الأسواق الخارجية، وهذه الأسواق ليس دائما مستقرة وتخضع للتقلبات لأسباب سياسية واقتصادية، ولذلك فإن درجة استقلالية الاقتصاد يمكن أن تتراجع أيضا مع التوسع في التصدير.
لذلك يبدو موضوع الاستقلال الاقتصادي مطروح للترويج السياسي بعيدا عن المنطق الاقتصادي. جذر الاستقلال الاقتصادي الأساسي هو في مستوى إنتاجية العامل، وهو ما يتطلب الاستثمار بصمت في العلم والتكنولوجيا بحيث يكون العامل التركي قادرا على أن ينتج ما يغطي مستوى استهلاك كافٍ ويزيد عنه بحيث يدخر أيضا ليمول الاستثمار. في الوقت الحالي، وعلى الرغم من عدم ميل المواطن التركي للبذخ في الاستهلاك فإنه بسبب انخفاض إنتاجيته يستهلك نسبة عالية من دخله ويبقى هامش قليل للادخار، وفي المتوسط فإن معدل الادخار في تركيا هو نحو 15% من الناتج المحلي وهو رقم منخفض جدا بمقاييس الدول الناشئة والمتقدمة.