وقعت بين يديَّ اليوم قصةُ شابةٍ إيرانية، عمرها واحدٌ وعشرون عاماً، طعنت شاباً أميركياً في أثناء ممارسة الجنس معه، وقالت إنها فعلت ذلك انتقاماً لمقتل قاسم سليماني. تعارف الشابان بوساطة موقع للمواعدة، بحسب الخبر، واستأجرا غرفةً في فندق، وقد أقدمت الفتاة على طعن الشاب في هذه الغرفة بعد أن عَصَبَت عينيه طوعًا بحجة مزيد من الإثارة. وتفصيلٌ آخر تضيفه الفتاة في اعترافها لاحقًا: تقول إنها استمعت إلى أغنية اسمها "حفار القبور" (Grave digger)، وإن هذه الأغنية قد حفَّزتها على هذا الفعل الانتقامي، (بحسب الغادريان والإندبندنت). وإلى هنا انتهى الخبر.
هذه قصةٌ من النوع المُغري، أو المُحفِّز على التفكير – إن جاز التعبير بهذه الطريقة – ويأتي هذا المقال مدفوعًا بهذا التحفيز، وغيرَ مقاومٍ لإغراء الحديث عن ما يمكن أن نسمّيه "فلسفة هذه القصة القصيرة"؛ فبعض الأحداث غير مهمٍ في ذاته بوصفه خبراً، بقدر ما يكتسب أهميته من قدرته على تحريض المتلقي على أخذ المعنى إلى خارج إطار الخبر: يحثه بصورةٍ ما على التفكير في هذه الأحداث لمنحها معنى من نوعٍ ما، غير المعنى الخبري الذي يفيد بوقوع حادثة وتوصيفها – وهو في قصتنا معنى اعتيادي بطبيعة الحال. ولا يهتم هذا المقال بالجوانب السيكولوجية لهذا الخبر، ولا بالقصة بوصفها أحداثاً لها مسببات يختلط فيها القانوني بالسيكولوجيا وربما بالإثارة. ونفكر فيها بمعزلٍ عن حقيقة وقوعها، وتفاصيل وقوعها، ومدى صحتها، وكواليس أحداثها، ومكامن الكذب والحقيقة فيها: نفكر فيها على حالها بوصفها تصويرًا رمزيًا مدهشًا لنوعية علاقة أميركا بإيران في الواقع، أو بصورة أكثر دقة هي تصوّر رمزي مدهش لموقع أميركا في المخيال الأيديولوجي الإيراني، وطبيعة صياغة الخيالي والرغبوي في طريقة عمل العقل الأيديولوجي الإيراني، والأدق أن نقول الأيديولوجي الخميني أو إيران الخمينية.
وبداية نجرد القصة من صيغتها الإخبارية ونسردها بطريقة ثانية كالآتي: أميركيٌ عارٍ مربوطُ العينين، تطعنه إيرانية رشيقة لا شيء يقيد حركتها، ولا حتى ملابسها، انتقاماً لمقتل سليماني، وذلك في أثناء علاقة حميمية. وكأن الأميركي قد تنازل عن نظره طوعاً، ظناً منه أن هذا التنازل سيكون طقساً من طقوس جلسةٍ حميميةٍ رائعة، ولكن الصوت الذي ظنه مقدمةً للحميمي القادم، لم يكن إلا صوت إخراج سكينٍ من مخبئه تمهيدًا لقتله. هذا هو في الحقيقة تفكير إيران الرغبوي في أجمل ترميزٍ له، ولا يمكن للمرء أن ينظر إلى هذا المشهد إلا بوصفه مشهدًا فاحشًا في جاذبيته الأيديولوجية، وتصوراته السوريالية. ولنفكر في المسألة من طريقٍ نطرح فيه النقاط الآتية.
أولًا: تعكس القصة صورة ترميزية لنمط تفكير الثورة الإيرانية الراهن؛ فواحد من أهم وسائل الفوز على الأعداء بتصوراتهم، يتحقق من خلال تبطين الكره، وإظهار الحب الشديد مكانه ليصدق الضحية الحميمية المفتعلة، ثم تعصيب عينيه بحبٍ، وبعد ذلك طعنه ببغضٍ شديد، وبصورة مفاجئة وانتقامية. هكذا بالضبط طعنت إيران الشعب اللبناني مثلًا، بعد أن صنعت معه حميمية جميلة، وغزلًا طويلاً، ومشروع شراكة في المقاومة والسلاح، ليتبينَ في النهاية أن ذلك كله وهمٌ، وليس إلا وسيلة لقبولٍ طوعي بتعصيب العينين تمهيدًا لطعن لبنان نفسه بوصفه وطنًا للبنانيين، وهكذا فعلت إيران. وكثيرة هي الأمثلة على هذا السلوك الإيراني. ولا ينجح هذا المخطط دائمًا بطبيعة الحال، إلا إنه على الأقل يظل تفكير إيران الرغبويّ، ويمكن رؤية هذا التفكير الرغبويّ في طريقة إدارة الإيرانيين للملف النووي والمفاوضات، ويمكن تتبعه في طبيعة الدبلوماسية الإيرانية الإقليمية والدَولية بالعموم.
تعكس القصة صورة ترميزية لنمط تفكير الثورة الإيرانية الراهن؛ فواحد من أهم وسائل الفوز على الأعداء بتصوراتهم، يتحقق من خلال تبطين الكره
ثانيًا: تسويغ الخطأ إذا تغطى بمقصدٍ يتكئ على الانتقام: الخطأ نفسه الذي تراه الأيديولوجيا الإسلامية الإيرانية كبيرًا إذا غابت عنه أية إحالة على مقصدٍ انتقامي. والانتقام هنا ركيزة مهمة في هذه الأيديولوجيا: انتقامٌ لمقتل الحسين، وانتقامٌ من أنصار الشاه، وانتقامٌ من قوى الاستكبار (بما تعنيه كلمة "استكبار" من معنى مطّاط)، وانتقامٌ لمقتل سليماني، وإلى ما هنالك. وربما مردُّ التأصيل لهذا الانتقام أنه امتد ليطولَ الذات قبل هذا كلّه: انتقام من الذات الماضية، يطولها بصورة ضربٍ وتعذيب للأجساد الحيّة الراهنة. عندما يكون المقصد انتقامًا، لا يسوَّغ الخطأ فحسب، بل ينقلب الحرام حلالًا: يعني لو لم يكن هذا الانتقام لمقتل سليماني مقصدًا، لكانت الفتاة في نظر نفسها زانيةً بالضرورة! ولكن تحوّلها إلى قاتلة، في هذه اللحظة، جعل منها محترمةً وبطلةً أمام نفسها. وهذا المشوار الدلالي من زانية إلى بطلة محكومٌ بالأيديولوجيا وليس بالسيكولوجيا، وإنْ تداخلَ المستويان في موضعٍ ما. هكذا يصير الزنى فعلَ بطولةٍ مقدسة، ويكف عن أن يكون زنى، بل يصير فعلاً لصناعة فرصةٍ ملائمةٍ للطعن. نحن هنا إزاء مثالٍ لأدلجة الحلال والحرام، وتعمل هذه الأدلجة الضرورية على نقل الدين من المستوى الأنطولوجي إلى المستوى الأيديولوجي. ويبدو أن هذه الأدلجة استمرارٌ لنهجٍ إيراني سابق مهَّد للثورة الإسلامية، يقوم على "أدلجة المأثور" – بتعبيرات الفيلسوف الإيراني المغمور "داريوش شايغان" – مثلما أدلج "علي شريعتي" مثلًا قابيل وهابيل، أو عندما قام بمركسة قابيل وهابيل (من كارل ماركس)، وصولًا إلى الاستنتاج بأن الحكم ينبغي أن يكون للشعب بوصفه ممثلًا لله، وليس لهؤلاء الذين يدّعون تمثيل الشعب ديمقراطيًا. وأيضاً له استنتاج آخر بموجب فعل المركسة هذا نفسه يفيد بأن الشيعية دين المحكومين والمضطهدين والمستضعفين مقابل المذهب السني الحاكم الذي ظل في السلطة. وبتعبيرات شريعتي نفسه، فإن الشيعية هكذا تصير إسلام الحرية والعدالة مقابل إسلام الخلافة إسلام الاضطهاد والاستغلال! والحقيقة لا يمكن رؤية أي حدود من النوع الذي يمنع أو يعيق تمدد الوهم الناتج من هذا النوع الخطير من الأدلجة، وإنتاج الوعي الزائف وإعادة إنتاجه.
ثالثًا: يؤدي تراكم هذه الأدلجة إلى تنميط هذا "الطعن الحميمي"؛ فيصير نمطَ حياةٍ وسلوكَ تفكير، ولا يعود شيءٌ في الدنيا أكثرَ جاذبيةٍ من مَلء خزان الهويّة بجثث الآخر. والنمط (أي نمط) اعتيادي ومطبَّعٌ بالتعريف، ولذلك يصير مع مرور الزمن جزءاً من الشخصية، ولا ينفع معه شيء إلا الصدمة، ولكن ليست أية صدمة، بل تلك الصدمة التي تأتي من داخله: من صحوة ضميرٍ مباغتة تكون نتيجةَ شيءٍ من تسلل التفكير العادي، وليس الاعتيادي، والعادي عكس الأيديولوجي ونقيض المقلوب..
المفارقة أن الذين دفنهم "حفار القبور" السوري قد قتلهم قاسم سليماني وحلفاؤه، وربما قضى عددٌ كبيرٌ منهم انتقاماً لمقتل الحسين أيضاً
رابعًا: الفكرة الأخيرة هي قول الفتاة إنها تأثرت بأغنية اسمها "حفار القبور"، وليست الأغنية أو كلماتها هي اللافتة في هذا السياق، مع أن هذا التوجّه يحتوي على مادة مهمّة بالنظر إلى أن أغلبية الأغاني التي يمكن للمرء أن يجدها بهذا الاسم ليست ثورية إسلامية من النوع الذي ينتقم لمقتل سليماني، ولكن في كل حال موضوعنا ليس هنا. موضوعنا في تشابه اسم الأغنية مع "حفار القبور" السوري، الاسم الحركي للرجل الذي كان يدفن ضحايا الشهداء الذين قضوا تحت التعذيب في سجون النظام السوري، والذي قدَّم أخيرًا شهادات في محاكم ألمانية وفي الكونغرس الأميركي ونقل صورة نادرة للوحشية الراهنة. المفارقة أن الذين دفنهم "حفار القبور" السوري قد قتلهم قاسم سليماني وحلفاؤه، وربما قضى عددٌ كبيرٌ منهم انتقاماً لمقتل الحسين أيضاً.. وكأنها محاولة لسرقة رمز ضحايا سليماني بعد الانتقام المزعوم لمقتله، وكأن فكرة الانتقام بما فيها من حقد لا تكفيها محاولة قتل بريء، بل أيضًا تترافق مع محاولة التشويش على رمزٍ ظهرَ ليرمز إلى معاناة مجموعة من الناس العاديين الذين قتلهم سليماني، وفي الأغلب كانوا عراةً، وربما معصوبي العينين أيضًا ولكنْ في سياقٍ آخر. ومن المنطقي هنا التكهن بأن تعصيبَ عيني الأميركيين قد تم إنجازه قبلَ هذه المجازر أيضًا؛ فلم يَروِها، واختلطت عليهم أصواتها بصوتِ حفلٍ حميمي اقتنعوا بأنهم يعيشونه، في حين أنه لم يكن إلا تحضيرًا لطعنهم، بهذا المعنى يكون أحد أسباب طعنة أوكرانيا الراهنة، تعصيبَ عيني الأميركيين في سوريا من قبل الروس والإيرانيين، وتوهّم أوباما يومئذ بأداء لعبة حميمية جماعية مع إيران وروسيا في سوريا.
يظل "حفار القبور" الحقيقة الوحيدة في هذا السرد، والباقي كله مجاز.