الصراع بين حق العودة وصنمية المؤسسات.. قراءة في حراك إدلب

2024.04.05 | 05:39 دمشق

345345
+A
حجم الخط
-A

لم تكن تتصور هيئة تحرير الشام أن مظاهرة على مدخل مدينة سرمدا لعدد محدود من الشّباب المطالبين بالتغيير عقب المشكلات الداخلية التي عصفت بها، قد شكلت شرارة أشعلت حراكًا في مركز مدينة إدلب رغم انتقاص الحسابات المناصرة للهيئة من قيمتها والتقليل من أهميتها، ليمتدّ ويشمل مراكز المدن، أبرزها بنّش وتفتناز التي شكلت ثنائيا ثائرا أرّق الجماعة التي بدأت بعقد اجتماعات مكثفة مع معظم فئات المجتمع لمحاولة تهدئة الجميع وتقديم وعود بإصلاحات تسير عجلتها ببطء إلى حد ما.

وفي سياقٍ موازٍ، ترتكز ردة فعل تحرير الشام على محاولات حثيثة عن طريق الإعلام الرديف لمهاجمة شخصيات عامة مشاركة في الحراك، ومحاولة تصنيف المتظاهرين إلى مجموعات تختلف بمرجعيّتها الفكرية وأن اجتماعها مع بعضها للمطالبة بإسقاط شخص "الجولاني" يعني أن الحراك مسيّس ومدفوع من جهات خارجية على حدّ وصف الحسابات الإعلامية للهيئة، ويتابع الإعلام الرديف بالتركيز على فكرة "المؤامرة" و"المخطط الخبيث" مستدلاً بزخم المظاهرات في مدينة بنش التي كانت من معاقل حركة أحرار الشام سابقًا وتفتناز التي يملك جيش الأحرار فيها ثقلاً ووزنًا، وأن غاية الحراك تصفية حسابات فصائلية سابقة،  ومنها مقتل "أبو عبيدة تلحديا" أحد عناصر جيش الأحرار تحت التعذيب في سجون تحرير الشام التي اعتقلت مئات الأشخاص بتهمة العمالة ثمّ برّأتهم.

وبالمختصر يمكن تلخيص ردود الإعلام الرديف بكونها أقرب للترقيع منها للحُجج ويعزز صحة ذلك اعتراف الجولاني شخصيًا بالأخطاء التي وقعت فيها تحرير الشام  وأكد على دعمه لمطالب المتظاهرين الهادفة لتحقيق إصلاحات دون المساس بـ "الخطوط الحمراء" -كما سمّاها-، أي كل شيء مقبول لكن دون سقف الجولاني.

وبالنّظر في أسباب الحراك والدوافع الحقيقية يدرك من يعيش في إدلب أن هيئة تحرير الشام وذراعها المدني متمثلاً بحكومة الإنقاذ تفرّغوا منذ إعلان وقف اطلاق النار في آذار 2020 لترسيخ سياسات اقتصادية قائمة على احتكار سلع عديدة بيد أشخاص محسوبين على "الجماعة" و"المشروع" ومتنفّذين في مفاصل مختلفة، وتقسيم الشمال السوري إلى شمالين من خلال معبر الغزاوية ودير بلوط بفرض الضرائب ومنع إدخال سلع معينة إلى إدلب، وتوسّع القضاء في الغرامات المالية بشكل مبالغ فيه، وكل ما سبق تزامن مع خسارة مساحات جغرافية واسعة عقب العمليات العسكرية التي شنتها ميليشيات النظام والاحتلالين الروسي والإيراني ضد شمال غرب سوريا، فخلقَت اكتظاظًا سكانيًا ورفعت من معدل البطالة بالإضافة إلى تدنّي أجور العمل كآثار جانبية من تبعات الحرب، وتوّج كل ذلك أخيرًا بتخفيض نسبة الدعم المقدم عبر برنامج الأمم المتحدة بنسبة 50% مطلع العام 2024 -كعامل خارجي إضافي-، وكانت هذه الأسباب بمجموعها أرضية للانطلاق نحو مشاركة الشريحة الأولى في حراك إدلب ضد ممارسات السلطات فيها.

وبالتّزامن مع الحال الذي هو عليه في الجانب الاقتصادي، استثمرت تحرير الشام بحالة الهدوء النسبي خلال السنوات الماضية وعزّزت سلطة جهاز الأمن العام والقبضة الأمنية المحكمة التي وصلت للتضييق بشكل كبير على حرية الرأي والتعبير حتى عاد المجتمع برمّته لنقطة الصفر، فما عاد يجرؤ أحد على توجيه كلمة تنتقد "قيادة المحرر"، كان تكتيك الجهاز الأمني ناجحا في ملاحقة الخلايا الأمنية وتفكيكها، أبرزها خلايا داعش، وفرض حالة أمان بنسبة عالية طوال 24 ساعة، وهذه نقطة قوة تحسب للجهاز، مقابل ذلك، صرفت الهيئة جهودًا كثيرة لقاء الترويج لإصدارات الجهاز الأمني وتوثيق العمليات والمداهمات التي ينفذها؛ لبناء حاضنة شعبية والتفافها حوله، وكانت، لكن سرعان ما اندثرت عند وقوعه في فخ "خلايا العمالة" وتكشّف جرائم القتل تحت التعذيب وأساليب الجهاز التي ينتهجها في انتزاع الاعترافات بطرق وحشية قمعية منافية لكل القوانين والأديان السماوية.

هذه الوحشية ضد عناصر الجناح العسكري في هيئة تحرير الشام وهم من "أبناء المشروع" فتحت بابًا للتساؤلات عن معتقلي الرأي في سجون الهيئة والحال الذي هم عليه، هنا كانت القاعدة الثانية والأساسية التي دفعت بشريحة واسعة من طلاب العلم والمثقفين والأكاديميين لإعلان حراك إدلب؛ رفضًا للحالة الاستبدادية المستمرة منذ سنوات وتفرّد الجولاني بالقرار وتصدير نفسه كقائد للمناطق المحررة وغياب الدور الرقابي لمجلس الشورى العام خاصة أن المجلس قام على أساس "التزكية" من منظور تحرير الشام، ويأتمر بأمر "قيادة المحرر" ليكون بذلك أداةً مُنفّذة ليس إلّا، وتجدر الإشارة إلى المشاركة القوية ضمن الحراك لشخصيات كانت قد وضعت حجر الأساس في تأسيس حكومة الإنقاذ، بمعنى آخر، من منح الجولاني شرعية "قيادة المحرر" عاد مجددًا ليسحبها منذ اللحظة الأولى للمشاركة في المظاهرات.

وبالعودة لطبيعة عمل الجهاز الأمني فقد قرّر الجولاني ملاحقة التنظيمات التي تحمل فكرًا جهاديًا متطرفًا وختمَها بملاحقة المنتمين لجماعة "حزب التحرير"؛ لتكون بالمحصّلة ورقة تستثمر بها الهيئة إعلاميًا كنجاح في ضبط المنطقة، وسياسيًا من خلال استعطاف واشنطن لرفع اسم الهيئة من قوائم الإرهاب، فشارك حزب التحرير بالحراك بناءً على ملاحقة واعتقال المنتمين إليه، وهو الشريحة الثالثة التي تحمل أهدافًا غير واقعية ولا تملك حاضنة شعبية في إدلب، والأقلّ تمامًا مقارنة بالأولى والثانية.

بالمجمل، يبقى القاسم المشترك بين شرائح الحراك الإيمان بأن نجاحه في حالة تمّ سيكون بمثابة إعلان عودة العمليات العسكرية لاسترداد المناطق المحتلة والخروج من عباءة التفاهمات الدولية التي أدخلت المنطقة في حالة اللاسلم واللاحرب، وبأخذ نظرة عامة على المعطيات المذكورة في المقال، وغيرها، يمكن التوصّل إلى أن هيئة تحرير الشام عمدت إلى الانشغال والاهتمام بتطوير المؤسسات وجودة الخدمات في إدلب منذ 2020 مع احكام القبضة الأمنية واحتكار التجارة، وهذه الثلاثيّة تتزامن مع توقّف العمليات العسكرية لاسترجاع المناطق التي سيطرت عليها ميليشيات النظام منذ أربع سنوات وتتاجر بها أسماء الأسد عن طريق "الأمانة السورية للتنمية"، واتّخاذ الهيئة مسارًا يهدف لتصنيم المؤسسات والمكتسبات التي وصلت لها والاكتفاء بالعمليات الانغماسية خلف الخطوط كل فترة وتطوير السلاح محليّ الصّنع -وهذه جزئية مهمة وميزة تحسب للجناح العسكري-، والقَبول بشريط حدودي تقيم فيه "كيانا لأهل السّنّة" كما يروّج له الجولاني، وإطلاق الشعارات التي تعد بالتحرير مع انعدام أفق الحل العسكري والسياسي -بالمدى القريب والمتوسط- وبقاء ملايين المهجرين قابعين في خيام لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، وهذا ما أدخل المنطقة في صدام بين حق العودة الذي ينشده ملايين المهجرين وصنمية المؤسسات التي ترسخها تحرير الشام بوصفها حالة مثالية يُريد الحراك التضحية بها من وجهة نظر الهيئة التي تربط الفوضى برحيل الجولاني.

فهل يكون حراك إدلب رأس حربة ومخرزًا يجبر الجولاني على تقديم استقالته ويكتب عنوانًا لمرحلة جديدة مختلفة عن سابقتها بما يحفظ المؤسسات والمكتسبات وحق العودة؟، أم تتراجع حدته حتى يتلاشى ويعود المجتمع بكل أطيافه، وفي مقدمتهم المهجرين -الأكثر تضررًا-، للدوران في حلقة مفرغة يتصادم فيها حقّ العودة مع صنمية المؤسسات.