اليوم الثالث من شهر أيار/مايو هو اليوم العالمي لحرية الصحافة، وكثيراً ما تكون تلك الأيام العالمية مجرد شعار تستجيب منظمات أممية لدعوة (قد تحمل نبلاً) لتكريسه، من دون أن يكون لها فاعلية ترقى لدورها العالمي المطلوب، لكن من بعض فضائل التكريس فحسب، أن يكون اليوم مناسبة للبحث في قضايا تسميته.
ثمة قضية أساس في مهنة الصحافة، المشبعة تنظيراً وتمجيداً، واختلافات أيضاً هي جزء من بنيتها وما تدافع عنه من حريات، لكن الواقع المتماوج باستقلالها وحريتها بين ارتفاع وهبوط، يستدعي وقفة أخلاقية أمام جوهر الرسالة.
كثير من القضايا قد لا يكون النقاش فيها أزمنة السلم، حادَّاً ومفصلياً، كما في أزمنة الحروب، خاصة المتوحش منها، كما يجري منذ أشهر في غزة، وكما عشناه قبلها لسنوات في سوريا.
غدا الصحفيون، الميدانيون منهم على وجه الخصوص، كُتّابَ النسخة الأولى، وأصحاب الوثائق الدامغة، لتدوين حقائق الأحداث في سجلات التاريخ، قبل أن تمتد لها تحريفات مؤرخي المنتصرين الذين يكتبون التاريخ على هواهم.
هي الحرب
وفي الحرب، لمن يعيش في أتون محارقها تحت كل وابل مما تفتقت عنه عقليات الذكاء المنحرف لتدمير الحياة، لا وقت للعزاء. فإن وجد بعض وقت، كان لإتمام مراسم، كالدفن إكراماً، خاصة في حروب المدن ومجازر التجمعات التي تمضي من غير توقف لآلات القتل، يستوي في ذلك المقاتلون والآهلون الذين يدفعون من حيواتهم وبنيانهم أفدح الأثمان، وغير بعيد عن هؤلاء كل من يعمل في ظروف الحرب بغير قتال، ومنهم الصحفيون.
حروب كثيرة عبر التاريخ، قبل أن تكون هناك مهنة مستقلة معروفة بمسمى الصحافة أو الإعلام، لم تجد من ينقل وقائعها حين حدوثها، ولم تجد لتسجيلها غير ما نقله الرواة من غير توثيق. ثمة حروب معاصرة أيضاً جرى التعتيم على كثير من فظائعها حين استفردت أميركا بقيادة العالم والتحكم بمعظم مفاصله، ومنها الإعلامي، كما جرى في حربي الخليج وكما كان في البوسنة وأفغانستان والصومال وسواها، حين كان يمر غير أقل قليل من أخبار (مصورة) وغالباً ما تحتاج أياماً لتصل إلى قلّة، إلى أن بات العالم، بتطور وسائل التواصل وانتشارها المذهل، شبه عاجز عن منع الصورة وخبرها من النقل والانتقال اللحظي، مهما حاول الصانعون تقييدها أو منعها وحتى حذفها من منصات يمتلكون التحكم بها وبخوارزمياتها المعقدة.
غدا الصحفيون، الميدانيون منهم على وجه الخصوص، كُتّابَ النسخة الأولى، وأصحاب الوثائق الدامغة، لتدوين حقائق الأحداث في سجلات التاريخ، قبل أن تمتد لها تحريفات مؤرخي المنتصرين الذين يكتبون التاريخ على هواهم، والمتأدلجين الذين يفسرونه، بعد فلترات وإضافات، تخدم أجنداتهم واستراتيجياتهم، مهما جانبت مروياتُهم المواربة حقائقَ الوقائع لحظة حدوثها.
هذا الواقع المستجد، والمتطور كل يوم، جعل الصحفي الميداني، سواء من يعمل منفرداً أو ضمن مؤسسة، أعمق تأثيراً في نقل حقائق الأحداث من كل المتزنرين بتقنيات أكثر تطوراً وخوارزميات معقدة وجيوش من أشباه بشر ارتضوا أن يصنفوا تحت مسمى (ذباب إلكتروني)، ما جعل الصحفي الحقيقي، الحريص على موضوعيته وأمانته، هدفاً بحد ذاته، وهو ما تشهد عليه اغتيالات كثيرة للصحفيين تتالت بتواتر متصاعد في السنين الأخيرة لتبلغ ذروتها اليوم في حرب غزّة.
ما يحدث من إصرار صحفي على التسامي فوق كل مأساة وألم يفوق الاحتمال جدير، ليس فقط بالتأمل ووقفات الاحترام والإكبار، بل وبالتأصيل لشرف مهنة طالما تناوشته غايات الباحثين عن أبواق مأجورة.
ما يحدث اليوم في غزة من حرب إبادة، تقصد أولاً البشر وإن اتخذت إليهم سبيلاً تفتيت البنيان والحجر، لم تستثنِ الصحفيين، وهذا للأمانة ليس سابقة في التاريخ ببعيده وقريبه، فمعظم الحروب كان من ضحاياها صحفيون اختاروا بإرادتهم ولوج مناطق نزاع بمخاطرها. الفارق في غزة اليوم أنَّ أكثر الصحفيين هم من أهل الأرض، وكثير من عائلاتهم وأقربائهم في المكان ذاته، وأن ما يحتملونه أضعاف ما يختاره أي صحفي بإرادته من ذهاب إلى ميادين القتال. ما شهدناه عبر الحرب التدميرية المستمرة على غزة منذ أشهر، وفي سوريا منذ سنوات، لا يجعلنا نستثني ما جرى لعائلات الصحفيين من سياق ما يجري لكل السكان والقطاعات المدنية. لكن ما يجعلنا نعيد النظر في كل المفاهيم المركون إليها، هو إرادة أولئك الصحفيين من أمثال زملاء عرفتهم ولم ألتقهم (ليس أولهم ولا آخرهم وائل الدحدوح ومؤمن الشرافي وسواهما من زملاء، ربما أثروا بي على نحو خاص خلال هذه الحرب، ليس من قبيل الزمالة فحسب، بل تشاركاً في تشابه مصاب سبق وعشته عائلياً ومهنياً من فقدان أقرب الناس وأعزهم إبان عملي خلال سنوات الثورة السورية، وهو ما لن أخوض فيه هنا تجاوزاً لكل ما هو شخصي). تلك الإرادة غير المسبوقة في التاريخ الصحفي التي تسامى بها أعزاء صحفيون وإعلاميون من غزة، وهم أهل الأرض، فوق عظيم مصابهم، ولعلهم كما صرحوا تناسوا عمداً مآسيهم المروعة، وفقدانهم لأعز أهليهم وأبنائهم، ومضوا بعد سويعات إلى عملهم النبيل متناسين فجائعهم. وسواء اعتبرنا استهدافهم وعائلاتهم مقصوداً أم ضمن منهجية صهيونية، غير بعيد عنها مستوى الإجرام والتوحش في حالة المنظومة الحاكمة في سوريا وشركائها، مدعومة أو مسكوت عنها من كبار الصانعين، هدفها إبادة شاملة لغزة بكل ما فيها، من غير اكتراث لأية قيمة أخلاقية، فإن ما يحدث من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ليست بعيدة عنها جرائم ارتكبها طغاة في سوريا وسواها، وما يحدث من إصرار صحفي على التسامي فوق كل مأساة وألم يفوق الاحتمال جدير، ليس فقط بالتأمل ووقفات الاحترام والإكبار، بل وبالتأصيل لشرف مهنة طالما تناوشته غايات الباحثين عن أبواق مأجورة من غير اكتراث بأمانة مهنة الحقائق ونبلها وسمو مقصدها.
الصحفيون ليسوا مجرد شهود على الحقيقة وناقلين لها، بل الحاملين والحماة لـ (شرف الرسالة).
شرف الرسالة، الرسالة الصحفية، التي ستكون وثيقة أولى للحاضر والمستقبل والتاريخ، وإن كانت مخضبة بدماء أعز من أحب حاملها، وربما بدمه أيضاً، هي قضية غدت جوهرية في المهنة، جديرة بأن تضاف إلى مناهج العمل الصحفي، لتجيب على أسئلة، ومن ثم تُرشد.
أسئلة لعل أهمها إعادة التأمل عميقاً فيما ظنه بعض أقرب للبدهيات من مثل (هل يعمل الصحفي في مؤسسة توجهها مغاير لقناعاته؟.. وهل الصحفي مجرد مهني يخدم صاحب أجندة متلاعباً بالحقائق وعليها؟. أم هو صاحب رسالة حقيقية لأجل الحقيقة وإحقاق الحق المسلوب؟).
وإرشاداً لمن يحملون الرسالة الصحفية شرفاً، من غير تجاوز معايير مهنية وأخلاقية، تبحث بأصول عن الحقيقة أولاً، ومن ثم تأتي تاليةً إضاءتُها وسبرُ أغوارها وخلفياتها وأبعادها وتداعياتها.
صحفيو غزة اليوم وقد كرستم القيمة وغدوتم عنوانها، وقبلكم ومثلكم صحفيون في كل البلاد التواقة للتحرر والحرية، وكل الذين فقدوا ويفقدون كثيراً من أقرب الأعزة إليهم، لكنهم يمضون في ميدان العمل غير آبهين بكل مخاطر التوحش، في وقت يسطر فيه إنسان الأرض، كالمقاتلين أو أكثر، أسطورة حياة متشبثاً بأرض تحرق وتباد ويدمر بنيانها بما فيه كي لا يعاود نكبته، تبقون أنتم، لا مجرد شهود على الحقيقة وناقلين لها فحسب، بل الحاملين والحماة لـ (شرف الرسالة).