لعله بميسور المرء أن يهتدي بسلاسة إلى مقاربة الأسباب الكامنة وراء السخط العام الذي تبديه الشعوب العربية والإسلامية وكذلك الشعوب والجماعات المناهضة للصهيونية حيال أنظمة الحكم العربية وتقاعسها عن نصرة الشعب الفلسطيني في غزة من جرّاء ما يتعرض له من حرب إبادة يشنها الكيان الصهيوني على المدنيين بهدف إجلاء سكان غزة وإعادتها تحت السيطرة الإسرائيلية مزامنةً مع تفكيك واستئصال جميع أشكال المقاومة وليس حركة حماس فحسب، ولكن السؤال الذي يُطرح دائماً هو هل كانت تلك الشعوب على ثقة سابقة باستعداد الحكومات الرسمية، ليس لنصرة أهالي غزة فحسب، بل لنصرة أية قضية من قضايا الشعوب العادلة؟ وهل نسبة الأذى الذي طال الشعب الفلسطيني، والقضية الفلسطينية على العموم من جانب بعض الأنظمة العربية، هو أقل مما مارسه الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني؟ بل ما هو مؤكد أن الذاكرة الفلسطينية ما تزال تختزن كثيراً من جرائم نظام دمشق في تل الزعتر (1976) ومجازر مخيمي نهر البارد والبداوي (1983)، علماً أن جميع مبادئ الحفاظ على النفس البشرية وحرمة قتلها أو الاعتداء عليها لا تميّز بين الضحية التي لاقت حتفها على يد حاكم طاغية عربي أو جلّاد صهيوني، فكلاهما قاتلٌ في النتيجة.
موجة السخط الشعبي ذاتها التي نراها اليوم تجتاح كبرى العواصم العالمية والمدن ووسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي، قد شهدها العالم في شهر حزيران من العام 1982 إبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت ومحاصرة قوات منظمة التحرير الفلسطينية لأكثر من شهر، وسط خذلان تام من جانب أنظمة الحكم العربية، ولم ينته ذاك الحصار إلّا بفرض إسرائيل لشروطها التي أفضت إلى إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت نحو تونس. ولعل مشهد النقمة الشعبية ذاته قد تكرّر في العام 2003 حين أقدمت الولايات المتحدة الأميركية على احتلال العراق وقتلت من شعبه أكثر من مليون مواطن، ومن ثم تركته عالقاً بنزيفه حتى الوقت الحاضر، وسط صمت عربي ربما وصل إلى درجة التواطؤ الفاضح. ولا يمكن اعتبار استمرار المذبحة السورية على امتداد أكثر من عقد من الزمن استثناءً عمّا جرى من أحداث سابقة، إذ إن نبرة الاستنكار وصرخات الاحتجاج والإدانة لممارسات نظام الأسد بحق السوريين لم تتمكن من ردع الجلّاد ولا من التأثير على سياسات الأنظمة وسلوكها حيال السلطة الحاكمة في دمشق. ولكن على الرغم من ذلك فإنه لا يمكننا بحال من الأحوال اتهام مشاهد السخط الشعبي على النظام الرسمي العربي بالتكرار النمطي، ولا يجوز النظر إليها باعتبارها تعبيراً عاطفياً أنياً تجاه الأحداث، وكذلك من السذاجة اعتبارها نتاجاً لندرةٍ في معرفة ماهيّة الأنظمة الحاكمة وجهلاً شعبياً باستراتيجياتها السلطوية، بل لعله ليس بجديد الذهاب إلى أن صيحة الشعوب وارتفاع نبرة غضبها يتجاوز ردّة فعلها على الحدث كواقعة طارئة، بل إن الحدث – كالحرب على غزة مثلاً – لم يجسّد سوى حالة انفجار لاحتقانات هائلة لدى الشعوب ليس بسبب الموقف المتخاذل حيال غزة فحسب، بل بسبب الخذلان الذي طال تلك الشعوب من حكوماتها قبل أن يطول الفلسطينيين في غزة، إذ إن معاناة الشعوب العربية مع حكامها هي معاناة مركّبة، من جهة تسلّط تلك الحكومات واغتصابها لحقوق مواطنيها واعتبار مصالحها الأمنية فوق مصالح الشعوب أولاً، ومن جهة تخاذلها حيال معظم أشكال العدوان الخارجي الذي جعل منها في أغلب الأحيان أدوات لتحقيق مصالحه ثانياً، ولهذا ربما جاز الذهاب إلى اعتبار المواجهة بين معظم الأنظمة الحاكمة ومحكوميها هي مواجهة وجودية لا يمكن اختزالها بتناقض جزئي أو محدود حيال مسائل عابرة، ولعل استمرار هذه المواجهة هو ما يجعل أي موجة استنكار شعبي حيال حدث ما، تتجاوز حدودها الطبيعية، بل ربما تفضي إلى حالات من انفلات الغضب والعنف الذي تصعب السيطرة عليه.
ولئن انتهت مناورات أنظمة الحكم التسلّطية حيال شعوبها وعلى امتداد عقود من الزمن إلى مواجهة وجودية، فهل ستمتد تلك المواجهة ذاتها لشمل إيران أيضاً؟ ثمة إرهاصات كثيرة توحي بذلك، ليس بسبب سياسات إيران الرامية إلى هدم الاستقرار في المنطقة العربية فحسب، وكذلك ليس لدور إيران في قتل السوريين واستهداف أمنهم وسعيها لمصادرة مستقبلهم، بل لأن إيران ببساطة تريد من الآخرين – عرباً ومسلمين – أن يسلّموا لها بريادة المقاومة ومصادرة قضية فلسطين وتصدّرها لتيار (ممانع) سبق أن بان زيفه وافتُضحتْ أباطيله وبات كذبةً نائية عن التصديق، وربما كانت قضية فلسطين بالذات هي أبرز المحطّات الفاضحة لمنطق المتاجرة والمزايدة التي باتت السمة الأبرز في نهج إيران السياسي. فمنذ السابع من شهر تشرين أول الماضي حين انطلقت عملية طوفان الأقصى خُيّل لكثيرين بأن إيران وأدواتها سوف تكونان الدريئة الأولى لحماية الدم الفلسطيني، بل ربما اعتقد كثيرون أن معركة "ما بعد حيفا" قد حان أوانها، وأن الصواريخ الباليستية الإيرانية ستنطلق من مخابئها لتقصف تل أبيب، ولكن واقع الحال يحيل إلى أن إيران تثبت مرةً أخرى كفاءة عالية في "ضبط النفس" لتحوز على ثناء أميركي وتبرئة مبكرة بعدم ضلوع قادة طهران في عملية طوفان الأقصى، ولا شك في أن إيران تدرك أن الترجمة الحقيقية لغيوم الرضا الأميركي يمكن أن يكون خراجها في طهران أو سوريا أو اليمن، ولكنها – من دون أدنى ريب – لن تمطر إلّا الموت على سكان غزة. ربما كان من الطريف المبكي تصريح قائد الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني يوم السادس عشر من الشهر الجاري، وفقاً لوكالة فارس الإيرانية، مخاطباً قائد كتائب عز الدين القسام : (إخوانكم في محور القدس والمقاومة متحدون معكم ولن يسمحوا للعدو بالوصول إلى أهدافه في غزة وفلسطين، إننا نؤكد العهد والميثاق والالتزام الإيماني والأخوي الذي يجمعنا لنطمئنكم بأننا وضمن استمرارنا في الحماية والدعم المؤثرين للمقاومة سنقوم بكل ما يجب علينا في هذه المعركة التاريخية). لا شك لو أن قاآني صرّح بهذا الكلام في الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي على غزة لاستطاع إيهام الآخرين بالتعويل على مشاركة إيرانية داعمة لحركة حماس، أمّا أن يأتي هذا الكلام بعد توغل إسرائيلي في عمق غزة وارتكاب مجازر متتالية بحق المدنيين، وتصل القوات الإسرائيلية إلى مخيم الشاطئ، وتتمكن من فصل قطاع غزة إلى شطرين، وتحاصر المشافي وتقصف معظم مراكز الخدمات والبنى التحتية، إذاً فما الذي تنتظره إيران بعد؟ هل تنتظر الإجهاز على حماس وإخراجها من غزة، كما خرجت منظمة التحرير من بيروت وحلّ محلّها حزب الله؟.