الدولة الإسلامية في إدلب.. رصيد الأسد المدور في بنك الإرهاب

2024.01.16 | 07:12 دمشق

عناصر من "هيئة تحرير الشام" خلال استعراض عسكري شمالي إدلب
+A
حجم الخط
-A

لم يبق للأسد ما يتعيش عليه بعد أن اهترأت عوامل وجوده واستمراره وانكشفت هشاشة عظامه السياسية والوطنية ونُخرت أسنان ادعاءاته التي كان يستند إليها في إقناع الداخل والخارج بشرعيته وتحولت شعارات المقاومة والممانعة والسيادة الوطنية إلى مجال للتندر والسخرية حتى من قبل أتباعه.

لم يبق للأسد سوى رصيده المدور في بنك التنظيمات الإرهابية والذي ما يزال يتجدد كلما بدده وكلما تعرض لمأزق سياسي أو وطني أو أخلاقي.

يلجأ الأسد إلى حسابه المفتوح لدى تلك التنظيمات والتي لا تبخل عليه فتمدّه بما يحتاج من أسباب البقاء دون مراجعة أو مساءلة..

يكفي أن يكون للأسد خصم مثل هيئة تحرير الشام ليبقى في مأمن من كل الزلازل التي تعصف بأرضه الرخوة، فيخرج من تحت أنقاضها سالماً ويعود من جديد للعربدة مستنداً إلى دعم خصمه الإسلامي الذي يقذف له بطوق النجاة كلما أوشك على الغرق، ويمده بآليات الحياة من جديد.

بلا مقدمات، تعلن هيئة تحرير الشام مجموعة من القوانين التي أثلجت قلب الأسد وجعلته يطمئن إلى أن خصمه المحبب لن يتخلى عنه ولن يتركه وحده في مواجهة العواصف التي تواجهه من شتى الاتجاهات، تعيد الجبهة رسم الصورة المعتمة لمفهوم البديل من خلال القوانين الجديدة التي فرضتها في إدلب والمتعلقة بالآداب العامة وبمجموعة الممنوعات والضوابط الجديدة التي جعلت من صورة إدلب نموذجاً يكرس التزمت الديني بأشد أشكاله تطرفاً.

قد يكون لقانون الآداب العامة الذي أقره الجولاني أنصار ومؤيدون كثر من غير المتطرفين، ومن أولئك الذين يفسرون تعاليم الدين على أنها تنسجم مع رؤية الجولاني، ولكن التوقيت هنا له دلالاته الكبيرة..

قد يكون لقانون الآداب العامة الذي أقره الجولاني أنصار ومؤيدون كثر من غير المتطرفين، ومن أولئك الذين يفسرون تعاليم الدين على أنها تنسجم مع رؤية الجولاني، ولكن التوقيت هنا له دلالاته الكبيرة، فلو كانت إدلب جمهورية مستقلة ومنفصلة عن الشرط السياسي المعقد الذي تمر فيه سوريا، لكانت تلك القرارات مجرد وجهة نظر في الدين وطرق تطبيقه، غير أن الواقع السوري شيء آخر، فما زال الأسد بحاجة إلى تبييض صفحته أمام المجتمع الدولي من خلال تطرف بديله المحتمل، وليس ثمة هدية أغلى من أن يقدم الجولاني الدليل على ذلك، ويؤكد للمجتمع الدولي صحة ادعاءات الأسد.

وبمعنى آخر، لو أن تلك القرارات جاءت بعد سقوط الأسد لكان لها ما يبررها ويفسرها على أنها رؤية خاصة لقناعة دينية، ولكن أن تأتي تلك القرارات بوجود الأسد وفي وقت تشتد فيه حاجته إلى إعادة التأكيد على بديله المتطرف، فهي مسألة تخلو من البراءة.

يفسر الكثيرون قرارات الجولاني المتعلقة بالآداب العامة في إدلب على أنها مجرد رغبة من زعيم هيئة تحرير الشام في تطبيق نموذج الشريعة الإسلامية الذي يؤمن به، أي إن الأمر كله لا علاقة له بالحسابات السياسية ولا بالتبعيات ولا بالجانب الخدمي الذي يؤديه الخصم المفترض لخصمه، الأمر هنا سيتوقف عند احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن يكون الجولاني غبياً على المستوى السياسي ليقدم لخصمه تلك الخدمات بالمجان، وهي عمالة غير مباشرة، أو أن يكون عميلاً مباشراً لنظام الأسد ويتلقى أوامره منه ليعيد إنتاجها بما يخدم صورة الأسد المعتدلة بالمقارنة مع توجهات خصمه.

ولكن الوقائع تشهد بأن الجولاني الذي استطاع الاستمرار حتى الآن كسلطة أمر واقع في إدلب، والذي يجد من الرفاهية ما يمكنه من إصدار قرارات وقوانين لا تصدر إلا في بلد مستقر ومطمئن، لا يمكن أن يكون على هذا المستوى من الغباء السياسي، ومن هنا لا يمكننا إلا ترجيح فرضية العمالة.

ورغم المناوشات التي يفعلها نظام الأسد والتي يقصف من خلالها مناطق في إدلب، إلا أنه الأحرص على استمرار الهيئة واستمرار وجودها كحليف على صورة خصم قادر على إقناع العالم بجدية خصومته، وهي مهمة وظيفية تقوم بها هيئة تحرير الشام لصالح الأسد.

لقد كانت التنظيمات الإسلامية حاضرة وجاهزة على مدار سنوات الثورة لتقديم دعمها للأسد، وما تنظيم داعش إلا المثال الأنصع على إنقاذ الأسد بعد أن كان سقوطه بحكم الأمر الواقع، وهنا علينا أن ندقق لنجد أن حجم التنظيمات الإرهابية ومدى قوتها كان يتناسب طرداً -وما يزال- مع احتياجات الأسد، ففي الوقت الذي كان فيه الأخير في أسوأ مراحل انهزامه، استولى تنظيم داعش على مناطق شاسعة من سوريا مخلصاً الأسد من الجيش الحر الذي كان التهديد الأكبر للأسد.

تصر التيارات الإسلامية الجهادية على تقديم خدمات كبرى لنظام الأسد إما عن جهل وحماقة سياسية، أو عن وعي وارتباط وتنسيق مباشر بأجهزة الأسد الأمنية، فكل ما يحتاجه ذلك النظام المتورط من رأسه حتى أخمص قدميه بدماء السوريين، هو خصم إسلامي جهادي مصنف  لدى المجتمع على أنه إرهابي..

والآن تبدو جبهة تحرير الشام متناسبة أيضاً مع حاجة الأسد على الأقل لتذكير المجتمع الدولي بخطورة البديل، ولهذا فهي تعيش في مأمن من روسيا ومن النظام رغم تلك المناوشات التي يقوم بها الطرفان لذر الرماد في العيون والتأكيد على الخصومة المفترضة.

منذ اللحظة التي أحس فيها الأسد بتهديد وجوده في السلطة، سارع إلى صناعة بديله بنفسه، فالفكرة معدة سلفاً، والتصميم جاهز، كان على النظام فقط تحديد موعد التنفيذ، وإعلان حالة الطوارئ.

وهنا كانت الثورة ضد الوريث هي التهديد الوحيد الذي كان النظام يخشى أن يتعرض له، وربما كان يخشى من فشل السيناريو، إلا أن الجماعات الإسلامية أدت دورها على أكمل وجه، وأعلنت للعالم أن البديل الذي يحذر منه الأسد هو الواقع الوحيد الذي سيسد الفراغ إن سقط النظام، وهو بالضبط ما كان.

ورغم انكشاف لعبة الأسد للسوريين وللعالم، إلا أنها ما تزال مستمرة بالوسائل ذاتها والأدوات عبر جبهة النصرة المتنكرة بقناع هيئة تحرير الشام.

تصر التيارات الإسلامية الجهادية على تقديم خدمات كبرى لنظام الأسد إما عن جهل وحماقة سياسية، أو عن وعي وارتباط وتنسيق مباشر بأجهزة الأسد الأمنية، فكل ما يحتاجه ذلك النظام المتورط من رأسه حتى أخمص قدميه بدماء السوريين، هو خصم إسلامي جهادي مصنف  لدى المجتمع على أنه إرهابي.

وإذا كان تنظيم داعش قد نفذ المهمة على أكمل وجه منذ عام 2013، فإن حاجة الأسد لهذا النوع من الخصوم ما تزال كبيرة بسبب المخاطر المتعددة التي تحيط بنظامه، والضمانة الوحيدة التي يمكن أن تنقذه من جديد هي وجود تهديد إرهابي في سوريا سيعول على الأسد أن يحاربه، أو بالحد الأدنى سيكون شكلاً منفراً لبديله المحتمل، مما يضع المجتمع الدولي أمام خيارين أحلاهما الأسد، فرغم إجرامه وديكتاتوريته إلا أنه لا يشكل خطراً خارج نطاق سوريا، وليس له مطامع في سيادة العالم أو القيام بغزوات عابرة للحدود، وهو فقط ما يقلق المجتمع الدولي.

لقد شكلت التيارات الإسلامية الجهادية التي امتطت عنوة ظهر الثورة السورية، الفيتو الأهم الذي انتشل الأسد من حافية الهاوية ومد له طوق النجاة في اللحظة الأخيرة وأزاح عن كاهله كابوس السقوط ومكنه من مواجهة التهم الوطنية والإنسانية والأخلاقية وسلسلة المجازر التي ارتكبها، بذريعة محاربة الإرهاب.

لا خوف على الأسد ونظامه طالما بقيت التنظيمات الجهادية تسيطر على مساحة معينة من الأرض السورية، وكلما أمعنت تلك التنظيمات في التطرف، ضمن الأسد استمراره وابتعاده عن دائرة الخطر..

منذ نهاية عام 2013، وبعد بداية الظهور الفعلي لتنظيم داعش، بدأت ملامح التغّير من القضية السورية تظهر على مواقف المجتمع الدولي الذي كان يناصر الثورة السورية، وظهر ذلك واضحاً عبر الصحافية العالمية التي بدأت تغيّر من طريقتها في التعامل مع الملف السوري وكان جوهر ذلك التغيير يتجسد في إقرار المجتمع الدولي بجرائم النظام وديكتاتوريته، ولكنه يبقى أفضل من التيارات الإسلامية الجهادية التي يحاربها الأسد بالنيابة عن المجتمع الدولي، وعلى هذا الأساس بدأت إعادة النظر في الأسد وبدأت محاولات إعادة تدويره، ويبدو أن الاحتفاظ بجبهة تحرير الشام أمر مهم وضروري للأسد حتى الانتهاء من عملية إعادة الشرعية له.

لا خوف على الأسد ونظامه طالما بقيت التنظيمات الجهادية تسيطر على مساحة معينة من الأرض السورية، وكلما أمعنت تلك التنظيمات في التطرف، ضمن الأسد استمراره وابتعاده عن دائرة الخطر، ومن هنا فإن إعلان إدلب دولةً إسلامية على غرار تنظيم داعش وبقناعات لا تختلف عن قناعاته وقوانين تتطابق مع رؤيته تبقى الظهير الأقوى للأسد والرصيد المدور في حساباته الدولية والإقليمية، وإلى حد كبير المحلية، حيث ما تزال حاضنة الأسد تخشى من سيطرة تلك التيارات الجهادية، بل إن كثيرين من خصوم الأسد يخشون ذلك أيضاً، الأمر الذي جعل الكثيرين ممن انضموا إلى الثورة يتراجعون عنها ويعودون لحضن النظام تجنباً لذلك السيناريو المتطرف.