تاريخ الدراما السورية هو تاريخ قريب نسبياً، ولما كانت مرحلة تحققها وانتشارها عاصرت ما يسمى الحركة التصحيحية، فلم تكن إلا خروجاً عن التاريخ العام لسوريا على الأغلب ولقد لعب تقييد الحزب والسلطة الحاكمة للأدب والفنون بصورة عامة دوره مع الدراما أيضاً.
ارتهنت الدراما، إلا قليلاً، لخصوصيةٍ اعتمدت الحشو العقائدي مع كثير من الكذب التاريخي، أما ظاهرة الفن والأدب الراقي فكان نصيبه في التحول لظاهرة اجتماعية قليل جداً.
يعود هذا الأمر إلى تغييب وحصر وإغلاق مقصود وغير مقصود، فالجانب المقصود متعلق بتملك السلطة لسوريا ومحاولة طبع كل المجالات وإنتاج المجتمع فيها ضمن شروط التبعية للسلطة ممثلةً بكل أذرعها الأمنية والحزبية الموازية منها والأساسية، وهنا يكمن بقاء الدراما ضمن حقل استقلال فكري لا يذكر.
والنص الفقير الذي لايبلور خطط وأساليب التغيير محكوم عليه أن يبقى ضمن حقل هدر الوقت بالتسلية الرخيصة والممجوجة، فأمر النهضة وخلق ظروف مضادة للاستغلال والاستبداد هو أحد أكبر المحرمات في سلطة الأب والابن حكام سوريا.
وعلى مدى عقود اجتهدت الدراما السورية في نبش السرديات وإنتاجها عبر سلسلة تتكلم عن مقاومة للاحتلال الفرنسي في محاولة بائسة لاستنطاق المجتمع بعاداته وتقاليده عن مرحلة مهمة في تاريخ سوريا، وتأتي النتيجة التي ظهرت عبر إغراق المجتمع بمزيد من الماضوية والجمود والكثير من الكذب على كل مستوى، وتتالت الأعمال المشابهة لتجد جمهوراً مغيباً تماماً عن فحوى المعنى والرسالة.
وعندما كان يتم القيام بعمل مقاوم للحصار والتغييب وكل ما هو مضاد لشروط الإبداع النهضوي، كانت عملية التطويق تتم عبر المزيد من نقد ينضوي تحت عنوان ترويج الفكر الهدام والأمر الأدهى عندما لاتكتفي السلطة بالتدخل غير المباشر عبر أجهزة أمنية متعددة وعبر شبكة علاقات نفعية اعتبرت الربح في ظل كل هذا الاستحكام والتطويق والعزل هو أمر أولي وكل ما هو مرتبط بالقيم المختلفة يرمى خارج نطاق العمل والوعي.
أدوات الإعلام والثقافة أخضعت كلها لعدم التفكير كثيراً في مشاريع النهضة والتنمية وأجبرت على الاكتفاء بفن يعلو فيه الصوت منتقداً ظواهر سلبية في غالب الأحيان يكون المجتمع هو المسؤول عنها.
ومثل هذا أخذ الكثير من جهد السلطات المستبدة والتي طمرت المعايير بعيداً كما طمرت جثث الذين قتلوا تحت التعذيب، ولم يكلفها الأمر سوى التلويح بالوحشية والسيطرة وبأوقات معينة القيام بالفعل الوحشي.
وهذا أحد أهم مواضعات البعث والسلطة، أنها ممارسة منوالية لها عقيدة ليست قومية كما كان يروم البعث، بل عقيدة أحكام السلطة واستمرارها بيد العائلة عبر أسيجة عقائدية، وللسائل عن دور وزارة الثقافة ووزارة الإعلام في هذا المجال فعلى القارىء والمتتبع الحصيف إدراك أن الوزارتين صممتا بحيث بدت كل وزارة منهما تمارس طقوس الاستتباع، وكان الأمر سباقاً من أجل تقديم طاعة لا محدودة للسلطة لا تشبع من الاستعباد، وأما أدوات الإعلام والثقافة فقد أخضعت كلها لعدم التفكير كثيراً في مشاريع النهضة والتنمية وأجبرت على الاكتفاء بفن يعلو فيه الصوت منتقداً ظواهر سلبية في غالب الأحيان يكون المجتمع هو المسؤول عنها، وإذا أردت تعداد ما أنتج من أعمال ضمن ما ذكرت سأجد معظمها مارست الخداع التاريخي والخداع المفاهيمي واستخدمت النصوص استخداماً نفعياً سياسياً وعقائدياً، ولك أن ترى أصولية الفكر الذي يمجد القبح والرداءة والقوة العابرة للقيم الروحية والأخلاقية، فمسلسل تاج وشيخ الجبل وأولاد بديعة و.. و...هي خلط متعمد يزعزع المجتمع الذي قد يتبنى تحت وطأة الأزمة والفقر والقهر كل ما بثته.
ويمكن أن يلحق ما تبقى من الشعب عبر طقوس الاحتفالات التي تقام في نهاية كل عمل بعملية قبول بل رضا كامل وبغواية النجومية والاحتفاء، أما الصراحة النقدية فهي غريبة كغربة الشعب السوري في أصقاع الأرض فلا زمن لها يحاذي سلطة المستبد ولا مكان يجاور مراتع سيطرته، وأما الكاتب المبدع للنص فلقد قضى معذباً أو فر هارباً ولقد أمن الأسد بولاء الممثل والكاتب والمخرج مخلوقات مؤدلجة وتحت السيطرة لحظة الطلب.
شهر رمضان الأميز لدى المجتمع السوري في الغالب هو موسم ازدهار الزيف الذي يظهر الشعب مستحقاً القمع والسحق ويظهر التاريخ مرتباً بحسب رغبة السلطة.
ولما أتيحت للقليل منا هنا في سوريا والكثير منا في المغتربات الرؤية نرى أن الوقت قد حان للكشف عن مدى التوحش والعمل على الحيونة عبر الكثير مما يعرض ويحتفى به ويعمم ثقافة ومسلكاً، وأن ترسانة السلطة الأمنية وجمهور النفاق هو مسؤول أمام محكمة التاريخ والضمير عن عمل تدميري وأن مسؤولية الإنهاك والتهتك المجتمعي الذي أخذ كل صور الانفلات هو عملية تطويع استغلت تزوير التاريخ وحتى المشاعر الدينية كجعل شهر رمضان مسرح العرض المفخخ لتدمير كل بنى الأصالة والنهضة.
شهر رمضان الأميز لدى المجتمع السوري في الغالب هو موسم ازدهار الزيف الذي يظهر الشعب مستحقاً القمع والسحق ويظهر التاريخ مرتباً بحسب رغبة السلطة.
وكم تبدو الفضاءات متاحة للكثير من الإباحية المتنوعة وكم نظهر كمجتمع بحالة زحف نحو الدرجة الأولى في سلم الارتقاء، وكم اجتهد الإنتاج الدرامي ليوفق بين متناقضات لا يمكن أن تسجل أي درجة من التعايش، وهذا بحد ذاته عاد مرة أخرى لينتج مزيداً من التعصب والنفور والتضاد.
لقد كان من الممكن أن يكون كاتب النص بطلاً عظيماً أو الممثل أو المخرج وليس هناك ما يمكن أن يلوي الاتساق مع الهدف ومع البيئة ومع الماضي، لكن كل من بقي هنا، إلا ما قل، افتقد الجرأة والمهارة والموهبة، وقبل ذلك قرر أن ينتحر أخلاقياً ليقدم خدمة مقابل ربح تروج لثقافة الحاكم المثقف الذي سبق شعبه، وأما الشعب فهو المتلقي لسردية القيادة الحكيمة التي تنتسب إلى أنسال متفوقة.
وأخيراً، لاشك أن الدراما تأويل ورسالة وهدف وأن العمل الإبداعي واحد نصاً وإخراجاً، ولكن الإبداع غاب واستخدمت الموهبة قهرياً في أدوار تطويعية ومروجة للانشطار والفصام والانزياح وإتاحة الفضاء لمزيد من سرديات ممسوخة.
من المؤكد أن فعل المقاومة ليس في السلاح وعلى الحدود فحسب، هناك نضال هادىء ولكنه عميق وحاد الرؤية إلى حد الجلاء، له قدرات تستجلي الموروث القابل للحياة والنفاذ عبر الوثيقة والسند ويتثاقف مع تطلعات إنسانية كونية. الأهم أن نقرر كشف مضامين الدراما الإشكالية والمباركة من السلطة والعمل على نهضة الدراما الجادة على حساب ماهو رديء منتشر.