الحياة عملٌ شاقٌ.. أين يدفن اللاجئون موتاهم؟

اعتدنا في سوريا أن نحضِّر أنفسنا للحياة، نلتهمها التهاماً، أو تبتلعنا، ولا ننسى آخر اليوم أن نردِّد كحكماء: عش حياتك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً!

موتنا هو شأن المحيطين بنا، لا يحتاج لتحضير مسبق، عليهم أن يتحملوا أننا كنا شركاءهم أو أصدقاءهم أو أحبتهم، سيتنادون لإتمام عملية الدفن وتلقِّي العزاء، لا بدّ أن يكون بينهم متحمسٌ لم تمتْ النخوة به بعد، سيردّ على اتصالاته المتكررة أصدقاء آخرون، في حين ينشغل قسمٌ آخر بشؤون أهمّ من موت صديق، قد يمرض قسم آخر، سيتحمس عديدون لطمرنا سريعاً تحت التراب، مردّدين: إكرامُ الميت الإسراعُ في دفنه! وسيدافع عنا آخرون، بعد أن يشبعوا من تعداد جوانب من المسكوت عنه في سيرتنا: اذكروا محاسن موتاكم!

ليس الحزن أو أيام العزاء هي أهمّ ما في الموت في أوروبا، حيث لا يُسْمَح لك أن تستغرق في مشاعرك في تلك الغربة

كان كبار السن، إذا أرادوا أن يشيدوا بطفل، يقولون له: أنت ابن موت! يرومون من ذلك القول: إن الحياة أضيق من أن تتحمَّل تميّزك، وإن خصالك لا تليقُ بهذا الهباء، ما هذه الثقافة التي تقدس الموت؟

ليس الحزن أو أيام العزاء هي أهمّ ما في الموت في أوروبا، حيث لا يُسْمَح لك أن تستغرق في مشاعرك في تلك الغربة، التي ظنناها أول الأمر، مزحة أو رحلة مؤقتة، ستمضي سريعاً.

علينا أن نقوم بعدة خطوات، قبل تثبيت موت صديقنا رسمياً في هولندا، ليس أقلها نقل عقد البيت إلى الزوجة، كي لا تمر بمرحلة قانونية صعبة، سامحك الله يا صديقي! ألم يكن من الممكن أن تسجل البيت باسمك واسمها، كلُّ أعياد الحب التي مرت، ويوم المرأة، ولم يخطر ببالك أن تهديها عقد بيت مشترك من دولة الرعاية الاجتماعية؟ أما شبعتْ ذكوريتك؟ ما جدوى الورد الأحمر ونبضات قلبك نحوها غير ذلك؟ لا وقت للعزاء، الوقت الآن للبحث عن قبر، وهل ضاقت الدنيا علينا بقبر لصديق نحبّه؟

حين أمعنتُ النظر في الخزانة، وأنا أزور صديقاً هولندياً وجدت عدداً من القناني، اشتغلتْ مخيلتي السردية، وذبذباتُ برج الحوت، فسألتُه: أهذا تراب أحضرتَه من البلدان التي زرتها؟

وقف، أحضر القناني الملونة، شرح لي حكايتها: كلَّ قنينة هي بقية رماد من جثث موتاه!

وقفتُ؛ وقد أصابني الهلع، تخيَّلتُ أنهم سيخرجون من قمقم القناني الزجاجية، ويقولون لي: نرفض أن نتحوّل إلى رماد، أو يدعونني لمجاورتهم، الموت عمل شاق، وكريه حقاً، خاصة إذا كانت نهايتُك في الفرن، ورمادُك في قنينة زجاجية بخزانة عتيقة!

 تحدثَ صديقي عن البيئة وكيف تضر الجثث بها، وناقشني في عدة مفاهيم، وحين وجدتُ نفسي في "حيص بيص" لذتُ بالمخرج الديني، وقلتُ له: أنا ابن ديانة لا تقبل الحرق!

ذلك اليوم داهمتني كوابيس كثيرة، حيث خرج الموتى من القناني ليحدّقوا بي طويلاً، لم أتخيلْ أن تكون نهايتي قنينة يتوارثها الأولاد، وتقبع في الخزانة، لا، لا، هذا غير ممكن!

اختار والدي، ذات أرض فراتيّة، أيّ قبور سيجاورها، على هضبة تطلُّ على وادي الفرات! وصديق له اختار أعلى التلة، قال ذلك المرحوم: لم أحقق في حياتي وجاهة، أريد لقبري أن يكون الوجاهة، واختار شاهدة القبر. حين جِيَء بداعش هشَّمتْ شواهد القبور، وعاد الأهل، بعد رحيلها، يتهجّون البحث عن قبور من يحبون!

فكرةُ شراء قبر، تدخل في باب عدم التصديق لشخص من الريف السوري عامة، أبناء المدن الكبرى، خاصة دمشق، اعتادوا ذلك، وحين أخبرتني صديقة دمشقية تحبّ الحياة وتكره الموت، أن الجثث تدفن فوق بعضها، لم أستطع أن أنام أياماً! كيف تتصارع الهياكل العظمية في القبور؟ وحين زرتُ القاهرة أدهشني عالم من البشر الأحياء، يعيشون وسط المقابر! دارتْ الأيام وصار اللجوء حياة وسط مقابر الفقد والحنين...!

حين داهمنا خبرُ موت صديقنا فجأة، لم نكن قد حضَّرنا أنفسنا للموت؟ ومتى كان الناس يحضرون أنفسهم للموت، هو أقرب من حبل الوريد، لكنه في كوكب آخر، يهبط فجأة ليختار رفاقه، ويلقي ظله عليهم، لا تنتظرْه، اهربْ منه، باستثمار كل لحظة حياة ممكنة مع من تحب!

يقول سارد معاصر: إنَّ أكبر مقبرة عبر التاريخ هي مقبرة المشاعر، ومشكلة هذه المقبرة أنه لا شواهد دائمة فيها، ولا آثار متبقية لها، سوى نصوص قليلة، أو لوحات تشكيلية، أو سرد من نوع ما، كلُّ رجل وامرأة لهم فيها ضحايا، على عدد زقزقات قلوبهما، شخصياً لي عددٌ من المقابر فيها، أحرص على مستوى الذاكرة ألا أغيّبها، أتحدث مع الجالسات فيها؛ بصفتهن كائنات لم ترحل عن عالمي، أجاهد طويلاً كي لا أدفن موتاي، لا تستعجلوا نهايات موتاكم، كي لا تموت ذكرياتكم؛ فتموت أرواحكم!

أرقام موبايلات موتاي حتى هذه اللحظة، لا تزال محفوظة فيه، لم أجرؤ على أن أدفنهم: هذا القاص محيي الدين مينو، آخر مرة التقينا في الإمارات، فجأة رحل، هذا الشاعر بشير العاني الذي تلتقيه كلما تفارقه، قتلتْه داعش، وهذا القاص إبراهيم خريط راح ضحية مجزرة الجورة التي ارتكبها النظام المجرم، هذه القاصة اعتدال رافع غيَّبها الموت في بيروت بعد إنذارات طويلة، واضطررت لحذف نعوتها من صفحتي بناء على طلب قريبة لها، هذا المشاكس إبراهيم الجرادي الذي تهدر قدماه على أرصفة دمشق، كم مشينا يا إبراهيم، أتذكر... وكم فقدنا في العقد الأخير من أحبة؟

حين قررتُ، ذات وهم، أن أدفن نشاطاتي عبر الفيسبوك مدة عام، كنتُ أريد أن أقول: إنني يمكن أن أتحكم بالموت عبر إغلاق الصفحة، تلك مقبرة لا مسيحية ولا إسلامية، تلك مقبرة السوشال ميديا، يعرض عليك الفيس بوك خيار أن يكون الدفن أو الغياب فترة أقصر، يسألك عن الأسباب لعلك تتوقف عن عملية الدفن! لكنك تصرُّ، وربما تفشل، وفي لحظة شوق إلى موتاك، أصدقائك وثرثراتهم وتفاصيلهم، ستعيدُ بعث الحياة في نفسك، وفيمن يتشارك معك جدار المجانين الأزرق هذا، الواقعُ أنت لا تدفن أصدقاء الفيس بوك، أنت تهرب منهم! تهرب من عدم قدرتك على التخلص منهم، أو التخفيف من ساعات الفيسبوك، أو عدم قدرتك على التنظيم، أو التعامل معهم، أو أن تكون حيادياً تجاه سطوة حضورهم، يا لجمالهم!

المغاربة والسودانيون والمصريون والأتراك عاشوا تجربة اللجوء في هولندا، وتعلموا منها، بات لديهم تأمين للموت، ومقابر وآليات عمل كي يدفنوا موتاهم ها هنا، أو ترحَّل الجثث إلى بلادهم الأم، أين بلدنا الأم؟ وماذا حلَّ به، هل من طريقة أن ندفنه أو نُدفَن به، وما الطريق كي نُدفن في بلاد مشمسة!؟

كم ابتلع البحر المتوسط من جثثنا نحن السوريين، ها نحن نتجمَّد على الحدود، أو نغتال غيلة، دون أن نتجرأ أن نطالب بحقوقنا، كم مات منا بالخطأ؟ وكم مات معتقل، دون أن يكون له رأي في مآله، وبقي خبر مقتله سراً؟ وكم أحْرِقَ من جثث موتانا حين تحولت البلاد، كل البلاد إلى صحراء تدمر.

الموتُ عمل شاق، يا خالد خليفة، والحياة في الوطن المسلوب والغربة كذلك عمل شاق، ليس بسبب الإجراءات الأمنية أو الحواجز، كما ورد في روايتك، أثناء نقل الجثة من مدينة إلى مدينة، الموت عمل شاق هنا بالإهمال، والتكاليف، والحروب التي لا تفارقنا، الحروب لعنة تمشي في حياتك، تسري في دمك، تهرب من جغرافيا الحروب لكنها تحولك إلى مقاتل في منزله أو عمله أو مع من يحب!

حالات الحرمان مما اعتدت أو أحببتَ نوعٌ من الموت الشاق، والموت أن تحاول الاعتياد على ثقافة جديدة حتى تنكر ذاتك التي عرفتها، كأنك لستَ أنت!

الحياة عمل شاق، حين تفقد الأحبة، أو لا تستطيع زيارتهم، أو لا تملك حق تقرير مصيرك معهم، وحين تعلّل نفسك: ما فائدة أن أراهم مدة أسبوع ثم أفتقدهم بقية العمر؟ الحياة عمل شاق حين لا تستطيع أن تزور والدتك سنوات! أن تُحَرم من مدينة عشقتها أو تشكلتَ فيها، أن تهدر سيرتك الذاتية التي بنيتها عبر ربع قرن وأكثر، لتبدأ الحبو من جديد، كأنك لم تكن، أو كأنك بعثت من كهف عتيق.

الحياة عمل شاق حين تجد أنَّ من حولك يريدونك أن تكون جسراً لمراماتهم فحسب، دون أن يخطر ببالهم، أن هذا الجسر له روح تنبض، وأن خطواتهم حين تمر به، تكسر عظام صدره، أو تهرس قلبه.

حالات الحرمان مما اعتدت أو أحببتَ نوعٌ من الموت الشاق، والموت أن تحاول الاعتياد على ثقافة جديدة حتى تنكر ذاتك التي عرفتها، كأنك لستَ أنت!

لا أحد يعرف طقوسه في هذه البلاد، لا خِيمَ تُنْصَبُ له، ولا صالات، لا صوت القرآن يصدح، ولا مقامات للناس يعرفها الموت، لا "كباب، ولا أوزي، ولا لحمة بعجين" يُطْعَمُ منه الفقراء أو المعزون الذين يدعون للميت من قلوبهم، من جوف قلوبهم!

صديقةٌ غاليةٌ عادت من الموت مؤخراً سألتُها: حدثيني عنه! قالت: الموت، يا أحمد، كائن غير محترم، ولا يليق بك! الحياةُ ألذُّ وأجمل، تمسَّكْ بها حتى آخر كلمة، أو نبضة قلب ربما!