في بلدي الذي تركته مجبراً، يفرض نظام الأسد قيوداً قاسية ليس على حرية الرأي فحسب، بل وعلى حرية الشعور أيضاً، وأصبح التعبير عن الحزن فيه بمثابه جريمة. والنظام في بلدي، يصنّف المعارضة السياسية وحق الانتقاد ضمن السلوكيات غير المقبولة، فيتعامل معها بصرامة وحزم ويخضعها للملاحقات الأمنية.
مثلي كثيرون من الشباب السوري؛ تعرضت كما تعرضوا لمضايقات وضغوط نتيجة مواقفنا السياسية المعارِضة للنظام السوري. لكنني بالإضافة إلى ذلك، حرمت على مر تسع سنوات مرت من التعبير عن حزني لفقداني أخي الصغير، والوحيد .
وجدت نفسي مضطراً لإخفاء مشاعري وقمعها بسبب المخاوف من العواقب السلبية التي قد تترتب جراء تعبيري العلني عن حزني لاعتقال شقيقي، ما شكل لي ضغوطاً عاطفية ونفسية هائلة نتيجةً لهذه الواقع المؤلم.
تعرضت للاتهامات من قبل والديّ وأخواتي، ولاموني كثيراً بسبب مواقفي وعملي ومعارضتي للنظام السوري، وأصبحت مصدراً للتوترات والمشكلات التي تعيشها عائلتي في كثير من الأحيان. فقدت دعمهم ومساندتهم لي، وافتقدت عاطفتهم التي أحتاجها وأتوق إليها في كل الظروف الصعبة التي مررت وأمر بها.
من المؤسف أن قصتي ليست فريدة ولا هي الأولى من نوعها، ففي بلدي العديد من الأشخاص الذين يعانون الضغوط والاضطهاد بسبب آرائهم ومعارضتهم النظام السوري، وكذلك الأمر في بلاد الأنظمة القمعية العربية والعالمية.
تسع سنوات وأنا أخفي مشاعري وأحزاني وأحلامي، وأتمنى في كل ليلة، قبل النوم، أن يزورني أخي في المنام، لكنه لم يزرني سوى مرة أو مرتين. وعندما استيقظ أكون قد نسيت تفاصيل الحلم.. تسع سنوات مرت وأنا أحاول الظهور بمظهر القوي الذي لا يهتز ولا يسقط أمام عبرات الحزن التي تراودني مراراً على أخي.
تسع سنوات عشتها على أمل أن أحظى بلقاء أخي واحتضانه بين ذراعي، لأبدأ بعدها بتنفيذ ما كنت أرتّبه لتعويضه عن سنوات العذاب والألم التي مرّ بها.
بعد كل تلك السنوات، يأتيني خبر استشهاده ليدمر ما بقي من أركاني ويزلزل كياني ويحطّم مشاعري.
وقفت أمام هذا النبأ مقهوراً، حائراً، أسائل نفسي: هل أستمر بكتمان ألمي وحزني مجدداً؟ هل أرضخ لرغبة أفراد عائلتي في عدم البوح والإعلان عن استشهاد أخي حرصاً على سلامتهم؟
هذه المرة انتصرت لمشاعري وضربت بعرض الحائط كل اللوم وشعور الخوف، وعبرت عمّا يجول بداخلي من حزن وقهر وغضب.
لم أعلم أن الإفشاء عن الحزن جريمة في بلدي، وبأن حزني سيعتقل مثلما اعتقل أخي، وسيُقتل كما قتل وحيدي! فالحزن ممنوع في بلدي وتهمةٌ بـ "الإرهاب"، والتعبير عنه خسارة لعائلتي الخائفة.
سامحوني يا أهلي، لم أستطع إنكار وجعي هذه المرة. الحزن ليس إرهاباً، والحزن يكسر باب القلب حينما يسيطر عليه. سامحوني لأنني عبرت عن مشاعري لأول مرة وحزنت.. لقد حزنت!