توقع كثيرون -وأنا منهم- أن تتدهور قيمة الليرة إلى مستويات أدنى بعشرات المرات مما حدث في الواقع، نتيجة للحرب وحجم الدمار الاقتصادي الكبير الذي لحق بالدولة. لكن الليرة في معظم الأحوال كذبت توقعاتنا أو إنها خالفتها بهذه الدرجة أو تلك، وهذا يطرح علينا السؤال الآتي: ما هي نقاط قوة الليرة التي ساعدتها في وقف تداعيها النهائي ومخالفة توقعات الاقتصاديين؟
سنعمد إلى إجابة بسيطة وواقعية "وعلمية بدرجة كبيرة" تعتمد على العرض والطلب، الذي لا يقتصر على السوق المحلية المتعلقة بمجمل الحالة الاقتصادية للبلد، إنما يضاف إليها السوق الدولية المتعلقة بالتصدير والاستيراد وتدفق الأموال من الخارج. فالنقود في النهاية هي مثل بقية السلع والخدمات ترتفع أسعارها (قيمتها) عند ارتفاع الطلب عليها وانخفاض عرضها، وتنخفض أسعارها (قيمتها) عندما ينخفض الطلب عليها ويزداد عرضها. وهناك مؤشران لقياس قيمة النقود، سعر الصرف ومستوى الأسعار في البلاد. ارتفاع سعر الصرف (عدد الليرات مقابل الدولار: حاليا 3250 ليرة = 1 دولار) وارتفاع مستوى الأسعار يشير إلى انخفاض قيمة العملة.
لفهم هذه العملية في السوق المحلية يمكننا أن نلجأ لأبسط النظريات النقدية ونعدلها قليلا (للتوضيح فقط وليس للتنظير الاقتصادي). وأعني هنا النظرية الكمية للنقود "رغم ما تعرضت له من انتقادات لسنا في معرض التطرق لها". تقول النظرية الكمية للنقود:
كمية النقود الموجودة في اقتصاد ما × سرعة دورانها = حجم الاقتصاد × مستوى الأسعار.
الشق الأول من المعادلة، أي كمية النقود مضروبة بسرعة دورانها، هو عرض النقود. في حين يمثل حجم الاقتصاد في الشق الثاني الطلب عليها، فيما مستوى الأسعار (سعر الصرف) يتغير مع تغير العرض والطلب مبينا تغير قيمة النقود. ولتبسيط ديناميكية الارتفاع والانخفاض في مستوى الأسعار نتناوله على مستوى كل عنصر في المعادلة أعلاه، أي كمية النقود وسرعة الدوران وحجم الاقتصاد.
هناك مؤشرات وأرقام غير رسمية تقول بأن كمية العملة تضاعفت أكثر من ثلاث مرات، نظرا للعجوزات الكبيرة في الموازنة العامة للدولة وتغطيتها بطبع عملة جديدة
فيما يتعلق بكمية النقود (التي تشمل العملة الورقية والمعدنية ومكملات مثل الودائع المصرفية)، هي ناتج السياسة النقدية للبلاد التي تعنى بتغيير كمية العملة المطبوعة والمتداولة ومعدلات الفائدة. ويفترض أن زيادة كمية العملة المتداولة وخفض معدلات الفائدة أن تؤدي إلى زيادة كمية النقود ومن ثم خفض قيمتها (رفع مستوى الاسعار أو سعر الصرف). والعكس صحيح، أي خفض كمية العملة المتداولة ورفع معدل الفائدة يخفض كمية النقود ويرفع قيمتها (انخفاض مستوى الأسعار وسعر الصرف). ولن نتطرق لمعدل الفائدة لقلة تغيره وبدائية القطاع المالي في سوريا ومن ثم ضعف أثر تغيرات الفائدة.
على الرغم من عدم وجود أرقام رسمية عن الزيادة في كمية العملة المتداولة في سوريا، لكن هناك مؤشرات وأرقام غير رسمية تقول بأن كمية العملة تضاعفت أكثر من ثلاث مرات، نظرا للعجوزات الكبيرة في الموازنة العامة للدولة وتغطيتها بطبع عملة جديدة، وهو ما انعكس جزئيا في طباعة فئات الـ 2000 ليرة و5000 ليرة. هذا الزيادة في كمية العملة لا بد أن تنعكس في انخفاض قيمة النقود. هذا يعني أنها قد تكون الآن حوالي 1731000 مليون باعتبار أن رقم عام 2010 هو 577000 (577000 × 3).
فيما يتعلق بسرعة دوران النقود، التي هي مسرعة للعرض، فهي تشير إلى عدد المرات التي تنتقل وحدة النقد من يد ليد خلال سنة مثلا. وكلما كان السرعة أكبر يعني أن عرض النقود أكبر وهذا يعني انخفاض قيمتها (ارتفاع مستوى الأسعار أو الصرف) والعكس بالعكس. تتأثر سرعة الدوران بتقديرات الناس للوضع السياسي والاقتصادي الراهن للدولة وتوقعاتهم حول مستقبلها. وكلما كانت التوقعات متشائمة فإن الناس يتخلصون من بالعملة بأسرع ما يمكن خوفا من انخفاض قيمتها ومن ثم تزداد سرعة دوران النقود وعرضها من ثم خفض قيمتها. والعكس بالعكس.
وليس هناك شك في أن الحرب والدمار الاقتصادي جعلا الناس أكثر تشاؤما حول آفاق سوريا المستقبلية ومن ثم ارتفعت سرعة دوران النقود. وهنا سنفترض أن سرعة دورات النقود تضاعفت ثلاث مرات. بافتراض أن سعر الصرف في عام 2010 كان 50 ليرة للدولار يمكن أن نقدر أن سرعة الدوران كانت 242.6 في ذلك العام. وإذا ضربناها بثلاثة، مقدار الزيادة في سرعة الدوران، يتوقع أنها أصبحت 727.8 الآن.
في جانب الطلب يتعلق الأمر بحجم الاقتصاد والذي يقاس عادة بحجم الناتج المحلي الإجمالي. وكلما كان حجم الناتج المحلي أكبر يحتاج البلد إلى كمية أكبر من النقود لإنجاز التعاملات الاقتصادية المطلوبة، أي يزداد الطلب على النقود وترتفع قيمتها، ومع تراجع الناتج المحلي ينخفض الطلب على النقود وتنخفض قيمتها.
ما حدث في سوريا هو أن هناك عاملين لعبا دوراً مهماً في تراجع الطلب على النقود السورية، الأول: هو تراجع الناتج المحلي الإجمالي، وهناك تقديرات تشير إلى أنه تراجع حوالي 60% بالمقارنة مع عام 2010. والعامل الثاني: هو الدولرة أي استخدام عملات أجنبية في إنجاز التعاملات الاقتصادية المحلية. وهنا نشير إلى أن هناك استخداما واسعا للدولار في عموم سوريا والليرة التركية في مناطق شمال غربي سوريا.
وإذا كان الناتج المحلي هو حوالي 2800000 مليون ليرة عام 2010 (بالسعر الجاري) فإن يكون الآن حوالي 1680000 مليون ليرة (بسعر 2010). وإذا اعتبرنا أن الدولرة أخرجت ما يعادل 30% من الاقتصاد خارج تعاملات الليرة السورية يبقى لدينا 1176000 مليون ليرة.
لو انطلقنا من نسبة كمية النقود (المسماة النقود الواسعة والتي تشمل الودائع) إلى العملة المصدرة في عام 2010 والتي كانت تقريبا 3.5، نظرا لأن كمية النقود عام 2010 كانت 2040000 مليون ليرة والعملة المصدر 577000 مليون في نفس العام (2040000 /577000)، وخفضنا النسبة إلى 3 بسبب انكماش القطاع المصرفي خلال الحرب، ستكون كمية النقود في سوريا هي العملة التي يتوقع أنها متداولة الآن، والتي توقعنا أنها الآن 1731000 مليون، مضروبة في نسبة النقود إلى العملة أي 5193000 (1731000* 3). لو استخدمنا المعادلة الكمية المشار لها أعلاه فما هو مستوى الأسعار المتوقع الآن مقاسا بسعر الصرف.
مستوى الأسعار (سعر الصرف)= (كمية النقود × سرعة الدوران)/ حجم الاقتصاد (الناتج المحلي) = (5193000 × 727.8)/1176000= 3213.80
هذا الرقم هو قريب جدا من سعر الصرف الحالي، ويقول بأن العرض والطلب الخارجي على النقود السورية كان متوازناً بحيث إن المحددات المحلية هي التي حددت مستوى سعر الصرف.
لنلقِ نظرة على العرض والطلب الخارجي (السوق الخارجي). في السوق الخارجي التصدير هو طلب على العملة المحلية (عرض للعملة الأجنبية) والاستيراد هو عرض للعملة المحلية (طلب على العملة الأجنبية) وتدفق الأموال من الخارج هو طلب على العملة المحلية (عرض للعملة الأجنبية) وهرب الأموال يعني العكس.
المفارقة أن ظروف الحرب فتحت للنظام السوري قنوات تدفق هائل للعملات الأجنبية، وهذا التدفق شكل طلباً مصطنعاً على الليرة السورية
ما نعلمه في الواقع هو أن هناك تدهورا كبيرا في الصادرات ويقابله تراجع أقل بكثير في المستوردات، حيث تراجعت نسبة الصادرات إلى المستوردات من 70% عام 2010 إلى 38% عام 2019 وهذه فجوة كبيرة من حيث زيادة عرض العملة المحلية عن الطلب عليها. إذا أضفنا لذلك حقيقة وجود هروب كبير لرؤوس الأموال من سوريا، هذا يعني عجزا كبيرا في العملة الأجنبية يدفع نحو تخفيض قيمة الليرة، لكن ليس هناك أثر لافت لهذه الفجوة، كما رأينا أعلاه. كيف تم تغطية هذا العجز بحيث بقيت آثاره محدودة؟
المفارقة أن ظروف الحرب فتحت للنظام السوري قنوات تدفق هائل للعملات الأجنبية، وهذا التدفق شكل طلباً مصطنعاً على الليرة السورية، مكنتها من أن تلطف من هبوطها. أهم هذه القنوات:
- تهجير حوالي 6 مليون من السوريين إلى الخارج والتحويلات التي يقوم بها هؤلاء لعائلاتهم في الداخل السوري. وتقدر هذه التحويلات بأكثر من 2 مليار دولار سنويا.
- المساعدات التي قدمتها إيران وبعض الحلفاء الآخرين للنظام السوري بسبب الحرب، وهي أيضا في بعض التقديرات لا تقل عن 2 مليار دولار سنويا.
- المساعدات التي قدمتها الجهات الحليفة للمعارضة، تحول عند الأنفاق في الداخل السوري إلى الليرة السورية، وتنتهي في النهاية إلى خزائن البنك المركزي السوري.
- المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة وجهات إنسانية أخرى.
ما هو مصير الليرة في المستقبل؟
إن لم تحدث تطورات سياسية دراماتيكية أو تطورات جديدة في مسألة إعادة الإعمار والعقوبات، أعتقد أن مصير الليرة سيكون المزيد من الهبوط المتدرج، بتأثير المحددات المحلية والخارجية. محليا سيستمر النظام في طبع المزيد من العملة لتغطية العجوزات الكبيرة في الموازنة العامة للدولة. خارجيا ستتراجع المساعدات الخارجية للنظام والمعارضة أكثر وأكثر مما يؤثر أيضا سلبا على قيمة العملة.