يشغل الجيشُ في دولة الاحتلال مكانةً رفيعة، لعلَّها الأعلى، كونه الموكولَ إليه حفظُ أمن إسرائيل، وشعبها، وسط مخاطر وجودية لا تنفكُّ تحيط بها.
ويُراد لهذا الجيش أنْ يبقى بعيدًا عن التشكيك؛ سواء في قدراته، أو في صِدقيَّته، وقد خُوِّل دورًا يتعدّى الحفاظَ على الأمن، إلى كونه صمام الأمان، وعامل الوحدة، والتوحيد، على قيمٍ وثقافةٍ مشتركة، ضرورية، لمواءمة المكوِّنات المتباينة، داخل المجتمع الإسرائيلي، كما ورد مثلًا، لا حصرًا، في دراسة لـ غادي آيزنكوت، (عضو المجلس الوزاري الحربي، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق)، وغابي سيبوني، (وهو عقيد (احتياط) في "الجيش الإسرائيلي"، وزميل باحث أقدم في "معهد دراسات الأمن القومي")، بعنوان" توجيهات لاستراتيجيات الأمن القومي الإسرائيلي" يعزوان فيها إلى الجيش، تحديدًا، بوصفه الجهاز الرئيسي، مهمة، (توحيد التيَّارات ضمن المجتمع الإسرائيلي).
هذه المهمة البالغة الأهمية، حيث الانقسام، أو التصدُّع، يهدّد بقاء دولة الاحتلال، (كما تجلّى في الأشهر الأخيرة، الفائتة، على خلفيَّة ما سُمِّيَ بالإصلاحات القضائية)، لم تُوكَل، بالأساس، إلى حزب معيّن، وليكن الحزب الذي يشغل الحكم والقرار، في الدولة، ولم توكل إلى مؤسسات الدولة المدنية، كمؤسسات التعليم، أو وزارة الثقافة، مثلًا، ولكنها أُنيطت، في الأساس، بالجيش، بوصفه الأقدر على تحقيقها.
ولذلك لا نستغرب أن تكون الحظوة في الزعامة، تاريخيًّا، من نصيب جنرالات الجيش، أو المنخرطين في أعمال عسكرية مؤثرة، حتى قبل قيام (الدولة) أمثال، مناحيم بيغين، ( مؤسس منظمة إرغون الصهيونية الإرهابية التي أُنشِئت قبل قيام الدولة) ثم موشيه دايان،( قائد سياسي، وقبل ذلك، عسكري، تولَّى رئاسةَ أركان الجيش، ساهمت رؤيته العسكرية في بلورة منهجية قوة الردع للجيش الإسرائيلي، كجيش هجومي ومبادِر)، وبعده إسحاق رابين، (من كبار قادة الهاجاناه، الحجر الأساس لدولة إسرائيل، والتي قتلت 360 فلسطينيًّا في دير ياسين، ومِن أشهر رجالات البالماخ المتفرِّعة عن الهاجناه"، ورئيس أركان في الجيش)، وإيهود باراك، خدم في الجيش، لفترة 35 سنة، ارتقى خلالها إلى أعلى منصب في الجيش، وهو "عميد"، كما حصل على شهادات في الشجاعة والأداء المميّز، وتولَّى منصب وزير الدفاع)، مقابل شعبية أقلّ، لزعماء لم يشتهروا بأدوار عسكرية كبيرة، أمثال شيمعون بيرز.
هذا الجيشُ الذي يختزل الدولةَ، بمجملها، يصبح التراجُع في مكانته والثقة به أمرًا بالغ الأهمية، فكيف إذا كان هذا يحدث، والجيش محتاجٌ إلى كل الدعم والتأييد
ولذلك لم يكن بعيدًا عن المبالغة وصْفُ دولة الاحتلال بأنها جيشٌ له دولة، أكثر ممّا هي دولة لها جيش، كما جاء في كتاب "جيش له دولة": "إسرائيل ليست دولة لها جيش يحميها، بل إنَّ هناك جيشًا، وله دولة"، هكذا يصل المؤلفون (غبريئيل شيفر وآخرون) إلى القناعة الأساسية السائدة في الدولة". ووفق عرضٍ للكتاب قدَّمه الدكتور عدنان أبو عامر، فإنَّ مفاهيم جديدة تقرَّرت في إسرائيل تقضي بأن يَمنح المجتمعُ هذا الجيشَ كلَّ ما أُوتي من قوة وإمكانات؛ لأن في ذلك حيلولة لـ "دمار المجتمع الإسرائيلي"، وقد جاء ذلك على ألسنة ساسة وعسكر، وكلُّها مَنحَت الجيشَ الإسرائيلي الأولويةَ المطلقة.
هذا الجيشُ الذي يختزل الدولةَ، بمجملها، يصبح التراجُع في مكانته والثقة به أمرًا بالغ الأهمية، فكيف إذا كان هذا يحدث، والجيش محتاجٌ إلى كل الدعم والتأييد، وهو يخوض حربًا وُصِفت بأنها وجودية، أو أنها حرب استقلال ثانية؟
مناسبة هذا الكلام ما بدأ يُثار، حتى قبل أن تعلن إسرائيل إنهاء عملياتها القتالية العدوانية على غزة، من انتقادات حادَّة للجيش وقادته؛ أنهم لم يعودوا جديرين بهذه الثقة، وأن النقد والتشكيك لم يعد كما هو المعتاد والمقبول، لم يعد مقصورًا على القادة السياسيين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو المعروف عنه تلاعبه بالحقائق، حتى الكذب بشأنها، من أجل مصالحه الخاصة، الذاتية.
ويتمحور النقد والتشكيك في جانبين الجانب الأول في صدقية تقييمات قادة الجيش، وتقديراتهم، في أثناء الحرب، عن حجم الإنجازات التي تحققت. والجانب الثاني في كفاءة الجيش القتالية وكفاءة جنوده، ومن ذلك ما قاله
داني كشمارو، المذيع التلفزيوني، في القناة 12: "إنه لأمر مؤلم ومحزن أنْ نكتشف، اليوم، أنَّ قادة عزيزين جدًّا على قلوبنا في الجيش لم يقولوا لنا الحقيقة. قالوا إننا حطَّمنا (حماس) في الشمال، ويتضح أن المقاومة الصلبة التي تواجه الجيش، تأتي بالذات من الشمال. قالوا لنا إن غزة سقطت بأيدينا، ويتضح أن (حماس) ما زالت موجودة وقوية في قلب غزة. لا بل إنها توجه لنا صفعة مدوية، وتبين أنها احتفظت بالمخطوفين فيها أو نقلتهم إليها، وسارت بهم بالقرب من المواقع التي يحتلها الجيش الإسرائيلي». واختتم قوله بأنه «يوجد هنا أناس يجب أن يخجلوا". بالطبع هذا المذيع لا يعكس وجهة نظر فردية، وإنما يجسِّد، بعلنيَّته، وجهةَ نظرِ تيَّارٍ له حضورُه في الجمهور الإسرائيلي.
تداولت وسائل إعلام إسرائيلية أخبارًا موثَّقة بشهادات إسرائيليين، وحتى جنود، وبعلامات وأدلَّة أخرى، عن تورُّط الجيش بقتل قسم كبير، نسبيًّا، من المدنيين الإسرائيليين، وحتى الجنود الذين احتجزهم عناصر من حركة حماس
والعاملان (صدقية تقديرات الجيش وكفاءتُه) متصلان، في علاقة تبادلية، إذ إن انخفاض الكفاءة، وضعف الأداء، قبل الحرب الراهنة، في أثناء عملية طوفان الأقصى، حين لم ينجح جيشُ الاحتلال في التصدِّي لهذا الهجوم، ولم ينجح في الحفاظ على قواعده، أو على معدَّاته، أو على أرواح المدنيِّين، وهنا تداولت وسائل إعلام إسرائيلية أخبارًا موثَّقة بشهادات إسرائيليين، وحتى جنود، وبعلامات وأدلَّة أخرى، عن تورُّط الجيش بقتل قسم كبير، نسبيًّا، من المدنيين الإسرائيليين، وحتى الجنود الذين احتجزهم عناصر من حركة حماس، أو المقاومة، في أثناء تلك الاختراقة الكبيرة، والصادمة، إلى بلدات غلاف غزة، في 7 أكتوبر، حيث صدرت، وَفْق تلك المصادر الإسرائيلية، إلى الجنود والطيَّارين، الأوامر بالإجهاز على الجميع، حتى لو كان بينهم إسرائيليون مدنيُّون أو جنود؛ عملًا ببرتوكول هانيبال، وهو يفضّل الجندي، قتيلًا، على أن يكون أسيرًا، في يد (العدوّ).
إذ أظهر تقرير لصحيفة "هآرتس"، أن مروحية عسكرية إسرائيلية أطلقت النار على إسرائيليين من المشاركين، في حفل نظم قرب "كيبوتس رعيم"، في غلاف قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
فهنا لم تظهر خيبة الأمل في الجيش في فشله في توقُّع الهجوم، أو في منعه، أو في التصدي له، بعد وقوعه، وإفشاله، بل ظهرت الخيبة في مساهمة الجيش في مضاعفة أعداد القتلى من الإسرائيليين، من المدنيين والجنود. وبذلك يكون الجيش وقع تحت التشكيك في أساس مهمته، وفي معنى وجوده، ووظيفته، إذ (مهمته الأولى)، كما ورد في موقع الجيش الإسرائيلي: "تشمل الدفاع عن سيادة إسرائيل ومواطنيها وحمايتهم، والحفاظ على الاستقرار والأمن، ومواجهة كل التحديات والتهديدات".
كما يتعرَّض الجيش وقادته التساؤلات عن مدى الكفاءة القتالية، بعد توالي الأخبار عن حالة تمرُّد في فرقة كبيرة؛ من جرَّاء إقالة قائدين بتهمة "التراجع عن الاشتباك مع مقاتلي (حماس)، كما تُلقي أعدادُ القتلى والجرحى في صفوفه على قرار الاستمرار بالحرب، بالتوازي مع تأثير تلك الخسائر المؤلمة على دعم الشعب والمجتمع وقدرته على الصمود، في ضوء إعلان جيش الاحتلال، عن عدد المصابين بين العسكريين، خلال عملية التوغل البري في قطاع غزة، وذلك بعد أسابيع من رفضه الإعلان عن تلك الحصيلة، بحسب صحيفة هآرتس، وبحسب الصحيفة، فإن الجيش الإسرائيلي، وبناء على طلبها، أعلن عن إصابة نحو 1000 جندي وضابط من قواته منذ بداية العدوان على غزة، وبحسب بيان جيش الاحتلال، فإن بين الجرحى 202 إصابة بجروح خطيرة. يصاحب ذلك ما كشفته صحيفةُ يديعوت أحرونوت عن أكبر تمرُّد لجنود احتياطٍ عن الخدمة؛ إذ تخلَّف نحوُ ألفيْ جندي احتياط، في صفوف الجيش الإسرائيلي عن الخدمة العسكرية، خلال الحرب في غزة.
هذا الضعف الذي تبدّى في الجيش، على أهمية دوره، لا بدَّ أنْ ينعكس على هامش القرارات السياسية المقبلة، ويفاقم من أزمة إسرائيل.