المآلات الراهنة للواقع السوري أنتجت لدى الشارع السوري رؤيتين، إحداهما تقول: إن القضية السورية خرجت من يد السوريين، وإن كان ثمة حل، فلا شك أنه سيكون نتيجة توافق دولي وإقليمي، ولن يكون ذلك إلا بتوافق مصالح الدول النافذة أو المتحكّمة بقضية السوريين، وإزاء هذه الحال، فلا جدوى من أيّ مسعى آخر وتحت أيّ شعار كان. الرؤية الثانية لا تختلف مع الأولى في تشخيص الحالة الراهنة، إلّا أنها ما زالت تؤمن بجدوى العمل الوطني بغية استعادة القرار الوطني، كما ترى أن الفرصة ما تزال قائمة للإمساك بزمام المبادرة (ولو نسبياً)، لمشاركة السوريين في رسم ملامح مصيرهم.
تتخذ دعوات أصحاب الرؤية الثانية أشكالاً شتى للإفصاح عما تسعى إليه، فمنها من يتحرّك ضمنَ إطار حزبي، يتمثل بتقارب مجموعة من الأحزاب والقوى المتشابهة، تعمل وفق برنامج مشترك، من أجل إنتاج رؤى وتصورات موحّدة، كما تسعى إلى ترجمة رؤاها ووثائقها إلى برنامج قابل للتطبيق الفعلي على الأرض، ويطمح أصحاب هذا النموذج أن يكون عملهم نواة لاستقطاب أطياف وطنية أخرى، وبالتالي يمكن لهذا المسعى أن يراكم مُنجزاً سياسياً تشاركياً طالما افتقده السوريون. إلّا أن معظم هذه التجارب كانت تقف عند نقطة لم تستطع تجاوزها، وهي افتقادها لآليات العمل التي تمكّنها من ترجمة رؤاها وتصوراتها إلى برامج عملية قابلة للتحقيق على أرض الواقع.
ثمة شكل آخر لهذه الدعوات يتجسّد بالمنتديات الحوارية التي تتم عبر وسائل التواصل المتعددة، إذْ يرى أصحاب هذا الضرب من التجمّعات أن السوريين بحاجة إلى حوارات معمّقة بين بعضهم البعض، ليس في الشأن السياسي والقضايا الراهنة فحسب، بل في جميع القضايا الفكرية والاجتماعية، وكذلك النواظم الدستورية والقانونية التي ستحدّد شكل الدولة السورية في المستقبل، ويرى أصحاب هذا النموذج أن نجاح أي تجربة سياسية يتقوّم بقدرتها على إنجاز تصوّر مشترك لسوريا (المُتخيَّلة)، وليس للقضايا الراهنة فقط.
الجميع يتكلم باللغة النمطية ذاتها، حتى الوثائق والأوراق والبيانات التي تتراكم في أقنية الإعلام ووسائل التواصل والمواقع الإخبارية ومراكز الدراسات، باتت متشابهة إلى حدّ بعيد
وبالعودة إلى مشروعية هذه الدعوات جميعها، من حيث إنها لا تأتي من فراغ، بل تعبّر عن أزمة حقيقية تتمثّل في غياب الطرف السوري، أو انعدام دوره الفعلي في تحديد مصير سوريا، وكذلك تتمثّل في حالة العقم المزمن في كيانات المعارضة الرسمية، وعدم قدرتها على حيازة ثقة السوريين، ولكن هذه المشروعية وما تلاها من جهود ومساعٍ، ما برحت تعمل وتنشط ضمن دوامة لم يهتد أحد حتى الآن إلى كيفية الخروج منها، إلى درجة بات فيها الجميع يفصح عن الهموم ذاتها، والجميع يتكلم باللغة النمطية ذاتها، حتى الوثائق والأوراق والبيانات التي تتراكم في أقنية الإعلام ووسائل التواصل والمواقع الإخبارية ومراكز الدراسات، باتت متشابهة إلى حدّ بعيد.
فمنذ شهر أيار الماضي شهدنا لقاءات عديدة جمعت السوريين، (مدنية) في باريس، وكذلك (مؤتمر القوى الوطنية) الذي انطلقت فعالياته متزامنة من باريس وتركيا والداخل السوري، وكذلك شهدنا اتفاقاً بين المجلس السياسي لقسد وهيئة التنسيق الوطنية أفضى إلى وثيقة مشتركة، وقد سبق هذه اللقاءات المؤتمر الثوري العام الذي انعقد في مدينة عفرين في السادس من شهر أيار الماضي، ثم شهدنا كذلك وقائع اللقاء الديمقراطي في برلين خلال يومي (20 – 21) من شهر تشرين الأول الفائت، ولئن كان من غير المنطقي الحكم القاطع والمسبق على تلك التجارب، إلّا أنه من الوجاهة السؤال عن الإرهاصات الأولية التي يمكن أن توحي بما يمكن الاطمئنان إليه، وفي سياق التساؤل هذا يمكن إبداء الملاحظات التالية:
أولاً: مواظبة القوى الوطنية السورية على التفكير في إيجاد أطر جديدة ناظمة للعمل الوطني على الرغم من تراكم العثرات أحياناً وفشل الكثير من التجارب أحياناً أخرى، لهو أمر إيجابي ومسعى سليم من حيث المبدأ، باعتباره يجسّد حيوية القضية السورية وعدم قابليتها للاندثار، كما يجسّد إحساساً بالمسؤولية حيال معاناة السوريين عموماً، بل يمكن التأكيد في هذا السياق على أن تعثّر التجارب النضالية سواء على المستوى التنظيمي أو الميداني ينبغي ألّا يكون مدعاة لأي شكل من أشكال الارتكاس أو المراوحة في المكان.
ثانياً: إيجابية هذا الحراك التنظيمي الذي تبديه بعض القوى والكيانات السورية غالباً ما تتلازم مع حالة سكونية من حيث التفكير والرؤية، إذ إن السعي نحو إيجاد أطر جديدة ينبغي أن يوازيه جهدٌ فكري يتجه نحو البحث في أهم المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية وما تركته من انعكاسات مباشرة على القضية السورية، على الأقل يمكن إعادة النظر في جملة المتغيرات التي حصلت فيما بعد زلزال السادس من شباط الماضي، كموجة التطبيع العربي مع نظام الأسد، والتقارب الإيراني مع السعودية، وقبل ذلك الحرب الروسية الأوكرانية التي أفضت إلى مواجهة غربية أميركية لسياسات بوتين، وأخيراً العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي وضع محور إيران ونظام الأسد ومشتقاتهما الميليشياوية أمام محكّ شديد الحرج، لعل كل ذلك كان يوجب على القوى الوطنية السورية تجديد وتقويم مواقفها وفقاً لما هو مستجد، لكن من المؤسف حقاً أن نجد أن معظم الرؤى والتصورات التي أفرزتها لقاءات السوريين ومؤتمراتهم باتت أقرب إلى وصفة نمطية جاهزة لا تتغيّر (المطالبة بتطبيق القرارات الأممية) وكفى الله المؤمنين شر القتال، دون النظر إلى أن تطبيق القرارات الدولية في ظل موازين القوى الراهنة ودون مبادرات سورية مؤثرة على المواقف الدولية، يكاد يكون ضرباً من الوهم.
تجاهل معظم القوى السورية الباحثة عن تجديد الأطر والكيانات لأهم مفصل نضالي سوري، والمقصود بالطبع هو الحراك الشعبي الذي انطلق من محافظة السويداء في أيار الماضي
ثالثاً: لعل الأهم من جميع ما سبق، وما يثير الذهول بالفعل، هو تجاهل معظم القوى السورية الباحثة عن تجديد الأطر والكيانات لأهم مفصل نضالي سوري، والمقصود بالطبع هو الحراك الشعبي الذي انطلق من محافظة السويداء في أيار الماضي، وارتقى إلى تشكيل حالة ثورية تركت امتداداتها على العديد من المناطق والبلدات السورية، بل بدأت تحفر أثرها في اهتمام العديد من المواقف الدولية، الأمر الذي جعل معظم السوريين يرون في انتفاضة السويداء انطلاقة جديدة للثورة، إذ كان يمكن الالتفاف حول هذا الحراك الجديد ودعمه والعمل على جعله نواةً جديدة لحراك سوري عام، وأن يسهم في عملية استعادة المبادرة الوطنية وتحييد الكيانات المتسلّطة والمفروضة على قوى الثورة، لكن التجاهل المستمر للحراك الشعبي من جانب العديد من القوى السياسية يؤكّد على أن تصورات النخب السورية عن أي حل للقضية السورية ما تزال تتجه نحو الخارج، أي الحل الذي يتيحه المجتمع الدولي وفقاً لمصالحه، وليس الحل الذي يسهم في إيجاده السوريون.