أسعار مواد البناء والحديد تتفاعل مع التضخم الجامح في سوريا بشكل طبيعي فلا يمكن لاقتصاد يعاني من تضخم تجاوز 5000 بالمئة منذ عام 2011 أن يحافظ على سعره الطبيعي، لا بل إن سعر الحديد وصل حداً غير مسبوق في تاريخ سوريا منذ تشكلها، حيث أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك القرار رقم 2265 المتضمن تعديل سعر مبيع مادة الإسمنت الأسود المنتج لدى المعامل والشركات التابعة للمؤسسة العامة للإسمنت ومواد البناء بحيث أصبح سعر مبيع الطن من مادة الإسمنت الأسود المعبأ 66900 ل. س فيما كان سعره 44500 ل. س، كما ارتفع سعر مبيع الطن من مادة الإسمنت الأسود الفرط من 42200 ليرة سورية إلى 60489 ليرة سورية، كما ارتفع سعر كيس الإسمنت الذي يباع للمستهلك من مؤسسة العمران من 2300 ليرة ليصبح نحو 3500 ليرة.
أما في السوق غير الرسمية فالأسعار تتجاوز هذا بكثير حيث إن طن الحديد المبروم وصل سعره إلى نحو 1.6 مليون ليرة، وسعر طن الحديد ارتفع بنسبة 315% مقارنة بأسعار 2018، وارتفع بنسبة 322% مقارنة مع عام 2017، وبنحو 364% مقارنة مع عام 2016.
رغم أن المؤسسة العامة للإسمنت لا تفي بحاجة الطلب المحلي وأسعارها غير تنافسية إلا أن اللجنة الاقتصادية مؤخراً منعت استيراد الحديد (اللفائف الأملس والمحلزن) وبررت اللجنة قرارها أن مردّه إلى حماية الصناعة الوطنية، نظرا لوجود إنتاج محلي وفق أعلى المعايير العالمية، وذلك استنادا إلى دراسة تقدمت بها وزارة الصناعة!
علماً أن كلفة إكساء شقة مساحة 100 متر وصلت إلى حوالي 10-15 مليون ليرة كسوة عادية، واللجنة الاقتصادية ووزارة الاقتصاد لا تعير اهتماماً بالارتفاع لسوق العقارات الذي سببه الرئيسي أرتفاع مواد البناء، حيث قفز سعر طن الحديد المبروم بنحو أربعة أضعاف خلال آخر خمس سنوات، بينما قفز سعر طن الإسمنت المعد للبناء بأكثر من 214 بالمئة.
أعتقد أن سوء الإدارة والفساد المستشري الذي يشجع السوق السوداء ويمنع دخول حاجة البناء من إسمنت وحديد من الخارج هو السبب الحقيقي وراء ارتفاع أسعار مواد البناء، فضلاً عن أن المرسوم 3 لعام 2020 والذي منع تداول غير العملة السورية وأغلق محال الصرافة كما ضيّق الخناق على توفر العملة الصعبة من أجل استيراد تلك السلع من السوق السوداء التي خسرت قرابة 1.5 مليار دولار سنوياً كان يستخدمها الصناعيون والتجار من أجل تلبية الطلب المُلحّ في السوق السورية.
أعتقد أن سوء الإدارة والفساد المستشري الذي يشجع السوق السوداء ويمنع دخول حاجة البناء من إسمنت وحديد من الخارج هو السبب الحقيقي وراء ارتفاع أسعار مواد البناء
إضافة إلى أن منع استيراد الحديد والإسمنت ربما يكون خطوة تمهيدية لدخول شركة ناش برويكت الروسية التي أبدت استعدادها في يناير عام 2018 للدخول في مجال صناعة الحديد والإسمنت، وعرض في حينها نائب مدير الشركة ألكسندر إياشين لمجالات عمل الشركة ورغبتها في المساهمة في مرحلة إعادة الاعمار من خلال إقامة مصانع في مجال صهر الحديد وإنتاج البيليت وقضبان التسليح.
لكن الأرجح أن الفساد هو سبب التضييق على مصانع الحديد في سوريا واحتكار النظام ومنظومة فساده لتلك الصناعة من مثل "شركة فولاذ للصناعات المعدنية المساهمة المغفلة الخاصة" في حلب، برأسمال 100 مليون ليرة، والتي يملكها أحمد بشير قاطرجي، حصة 40% من الشركة، وأحمد هو ابن محمد براء قاطرجي المدرج على لائحة العقوبات والمحسوب على ماهر الأسد.
نتيجة هذا التضييق والإتاوات المفروضة على المصانع أعلن في يناير 2019 أكثر من 30 معملاً ومنشأة صناعية كبيرة ومتوسطة، التوقف عن العمل، وهذه المنشآت مختصة بإنتاج المعادن المستخدمة في الإنشاءات والأعمال الهندسية، وتشكيل الصاج على البارد بالدرفلة، وسحب الأسلاك الحديدية، وصهر وسكب المعادن، وغيرها من منتجات الحديد المعاد تصنيعه، والسبب المباشر لإغلاق معامل صهر الحديد يعود إلى ضغط وتسلط مليشيات النظام على أصحاب المنشآت منذ منتصف العام 2018، حيث فرضت الميليشيات ضرائب ترسيم مرتفعة على عمليات توريد وشراء الخردة اللازمة لتشغيل المعامل، ووصلت قيمة الترسيم في بعض الأحيان إلى 100 ليرة سورية لكل كيلو من الحديد الخردة، إضافة إلى الضرائب التي فرضتها "الفرقة الرابعة" على مصانع صهر الحديد في الشيخ نجار، بما يشمل "رسوم" التشغيل والحماية، وتسهيل عمليات النقل إلى صالات العرض والتسويق.
هذا التضييق على الشعب السوري والدفع بالأسعار للارتفاع لأسباب الفساد والترهل الإداري سيؤخر عملية ترميم بعض البيوت المهدمة كي لا يعود إليها أصحابها لأنهم ببساطة لا يملكون القدرة المالية على ذلك وبذلك تستمرعذابات السوريين في الداخل والخارج لصالح أجندات سياسية وربما طائفية وتغيير ديمغرافي ترضى عنه منظومة الحكم وحلفاؤها.