بينما يشتدُّ الصراع الذي يتِّخذ شكلَ الحرب في أوكرانيا، ليس بينها وبين روسيا، فحسب، ولكن بين الدول الغربية، وفي مقدِّمتها أميركا، وروسيا، يتتابع وقوع الضحايا.
وضحايا هذه الحرب التي مرَّ عليها قرابة ستة أشهر، ولا تلوح لها علامات نهاية، ليسوا أفرادًا؛ مقاتلين، أو مدنيين، فقط، ولكنها أصبحت تهدِّد شعوبًا وبلادًا بالمجاعات، هذه البلاد المهدَّدة، كما في إفريقيا، على ضعفها، لا تفقد إغراءها؛ فهي لا تكفُّ عن إثارة شهيَّة دول راغبة في امتصاص ما تبقَّى من ثرواتها، والانتفاع بمزايا نفوذها؛ من موقع، أو مكانة تجارية، وما إلى ذلك من تجلِّيات جيوسياسية واستراتيجية، فثمة تقديرات أميركية ترى أن الصين وروسيا تنظران إلى القارَّة على أنها ساحةٌ لتحدِّي النظام الدولي القائم على القواعد، ودفع مصالحهما الخاصة.
هذه الحرب المفصلية الروسية الأوكرانية؛ في تحديد شكل العلاقات الدولية، والنظام العالمي، والمشفوعة بحمولات أيديولوجية، حول الأجدر بقيادة العالم، تتَّسع أدواتُها لتشمل الدفوعات الإنسانية، وادِّعاءات المسؤولية.
روسيا تتهم أميركا بالهيمنة على العالم، ومراعاة متطلَّبات الهيمنة المجرَّدة، فيما موسكو تحاول أن تنصِّب نفسها بديلًا أكثر إنسانية، واستيعابًا لتنوُّعات أمم العالم، الفكرية، والدينية، وسائر نظُمها الاجتماعية والسياسية.
ولا تغفل روسيا/ بوتين، عن استخدام نفس الدعاوى، التي طالما استخدمتها أميركا، من قبيل الحرب على الإرهاب، فتحت ذريعة الإرهاب، تنخرط روسيا في إفريقيا دبلوماسيًّا وعسكريًّا في مواجهة الولايات المتحدة وفرنسا؛ متوخيّةً توطيد موطئ قدم لبلاده في إفريقيا؛ القارة الشاسعة المِساحة، والطائلة المقدَّرات، والبالغة المزايا الجيوسياسية والاستراتيجية، و"القارَّة التي ستشكِّل المستقبل، وفق وزير الخارجية أنتوني بلينكن، - وليس مستقبل شعوب إفريقيا فحسب، بل مستقبل العالم"، والمتوقَّع أن تصبح خامس أكبر كتلة تجارية في العالم.
وإفريقيا، في الوقت نفسه، من الأماكن الأكثر تعرُّضًا للمجاعات؛ لأنها من قبل، الأكثر هشاشة، بالمجمل؛ للصراعات المحلية، والتي لا تخلو من أبعاد دولية، عادة، وبالتوازي، تنشط الصين باستراتيجية هادئة، وطويلة النَّفَس، وتحقِّق نجاحاتٍ ملحوظة، مِن تجلِّيتاها أنْ أصبحت الصين مفضَّلة للعديد من البلدان الإفريقية، مع مشاريع بنية تحتية ضخمة وقروض منخفضة الفائدة، وكلُّها ساعدت في زيادة النفوذ الصيني في القارة.
فالشغل الشاغل لهذه الدول، (كما يظهره التنافسُ والصراع في القارة الإفريقية، وهي أميركا مقابل روسيا والصين، وفي بعض الدول، كـدولة مالي، تظهر، أيضًا، فرنسا مستاءةً من محاولات التمدُّد الروسي)، هو تعزيز مواقعها، وتكثير أوراقها، وتعميق تغلغلها في مناطق التنافس والنفوذ، تحت ذرائع موارِبة، كالحرب على الإرهاب، مثلًا، أو محاربة الأوبئة. وتأكيدًا لأهمية إفريقيا، أميركيًّا، أعلنت إدارة الرئيس جو بايدن عن إعادة تفعيل الوجود الأميركي في إفريقيا، في عودة عن القرار الذي اتَّخذه الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي قام بسحب كلِّ الجنود الأميركيين، وإنهاء عمليات "أفريكوم" فيها.
اتهم أوستن الصين بالعمل على توسيع نفوذها العسكري والاقتصادي، عبْر بناء قواعد لها في إفريقيا؛ لتقويض علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات والجيوش الإفريقية
وفي المجمل، تجهد أميركا في الاحتفاظ بنفوذها في القارة الإفريقية، مقابل محاولات روسيا والصين، وفي هذا السياق، اتَّهم وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مَن وصفهم بـ"الغرباء"، "الذين يحاولون الإمساك بإفريقيا"، بالعمل على "تقويض العلاقات الأميركية الإفريقية". كما اتهم أوستن الصين بالعمل على توسيع نفوذها العسكري والاقتصادي، عبْر بناء قواعد لها في إفريقيا؛ لتقويض علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات والجيوش الإفريقية. كما حذَّر من التدخُّل الروسي في القارة السمراء، ومن تآكُل الديمقراطية في العديد من دولها".
ويتمثل أحدث مظاهر هذا النشاط في تدريبات عسكرية روسية مع الجزائر، وتعزيزات عسكرية إلى مالي. وتعرف روسيا، كما غيرها، كيف تتقاطع، وتُكيِّف أهدافها مع النُّظُم الحاكمة في البلاد المستهدَفة، كما في الجزائر،
فقد أعلنت الخدمة الصحافية للمنطقة العسكرية الجنوبية في روسيا، عن تدريبات عسكرية مشتركة مع القوات المسلحة الجزائرية ستتم في نوفمبر/ تشرين الثاني، المقبل، في صحراء الجزائر. وقالت إنَّ هذه التدريبات المشتركة مخصَّصة لمكافحة الإرهاب، وهي تتم في الجزائر لأول مرة، ومن المقرر أن تُجرى في قاعدة "حماقوير" بولاية بشار، القريبة من الحدود مع المغرب. ورأى مراقبون أنَّ اختيار هذا المكان له دلالة سياسية واستراتيجية، من جانب الجزائر.
وليست أميركا وحدها المستاءة من التمدُّد الروسي في إفريقيا، حيث تظهر فرنسا استياءها، أيضًا، إذ نشرت وكالة سبوتنيك الروسية مَشاهد لقادة عسكريين ماليين، وهم يتسلَّمون مجموعة من الطائرات العسكرية التي سلَّمتها روسيا للحكَّام العسكريين في باماكو. بالتوازي مع انتشار مجموعة "فاغنر" الأمنية الروسية في قواعد عسكرية عدّة، في مالي، هو أمر تسبَّب في مزيد من الخلافات بين باريس والحُكْم العسكري في مالي. وترى فرنسا أنَّ روسيا تحاول التمدُّد في مناطق نفوذها التقليدية في إفريقيا.
وفي إطار هذا التنافس المحموم بين الدول الكبرى على مواقع النفوذ في إفريقيا، وغيرها، يتبادل الطرفان الرئيسان، أميركا، وروسيا، الاتِّهامات عن الأزمة الغذاء العالمية التي تلوح في الأفق، وعن ارتفاع أسعار السِّلَع الغذائية، والأساسية، ولا يبدو ثمَّة حلول جِدِّية لأخطار وشيكة وكارثية، كما أظهر تحذير الأمم المتحدة من مجاعة في الصومال، وأنه "أصبح على شفا كارثة".
ففيما قالت أميركا إن روسيا هي التي تمنع خروج القمح الأوكراني، وهي المتسبِّب في تلك الحرب، والمبادر إليها، وتاليًا، هي المسؤولة عن تبعاتها، يروِّج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن العقوبات الغربية الأميركية هي السبب في ارتفاع الأسعار، وفي المجاعات المحتملة، أو المرجَّحة، ولهذه السِّجالات، وغيرها من العوامل، أثرُها في تحديد مواقف الدول الإفريقية وغيرها من أطراف الحرب الأوكرانية، إذ لم تبدِ أغلبية الدول الإفريقية إدانة صريحة للغزو الروسي.
وفي هذا المضمار، تدخل مطامع مصاحِبة، كالترويج للسلاح، كما يفعل، مثلًا، الرئيس الروسي بوتين، في المقابل، تجهد أميركا، في كبح هذا النشاط المنافس، وتصوِّره بصورة سلبية تدميرية، كما توضحه أقوال وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن: "تبيع روسيا أسلحة رخيصة، وتدعم قوات المرتزقة (...) هذا تذكير آخر باستعداد موسكو لنشر الفوضى وتهديد النظام الدولي القائم على القواعد، وهو يتجاوز غزو بوتين المتهوِّر لأوكرانيا".
كما أعرب مشرِّعون أميركيون عن قلقهم الشديد بشأن استخدام موسكو لمجموعة فاغنر المرتزقة؛ لإبراز مكانة روسيا في القارة، وسلَّطوا الضوء على أنشطة المجموعة في مالي، حيث تسبَّبت الانقلاباتُ العسكرية المتتالية في زعزعة الاستقرار في المنطقة، وزعموا أنها أعطت روسيا موطئ قدم في القارة.
ولكن بلغة أكثر صراحة، ومباشرة، كما جاء في صحيفة "واشنطن بوست"، عبَّر أولئك المشرِّعون عن قلقهم من أنَّ نفوذ روسيا، المتوسِّع في جميع أنحاء القارة، يمكن أن يطرد الولايات المتحدة من قطاع تعدين السلع الغني في إفريقيا، مع التركيز بشكل خاص على المعادن الأرضية النادرة، مثل الكوبالت، وهو عنصر حاسم في بطاريات أيون الليثيوم القابلة لإعادة الشحن، والمستخدَمة في الهواتف المحمولة والكهرباء، والسيارات الكهربائية، والعديد من المنتَجات الأخرى.
وعليه، فتعقيدات الوضع في إفريقيا، كنموذج لميدان من ميادين الصراع الدولي، لا تقوى المنظمات الدولية الإنسانية، على مواجهته، ولا تفي قدراتها، ووسائلها، على الحدّ من هذا التمدُّد الكبير للجوع والجفاف، مع سعيها الحثيث على إعداد نفسها لمستويات أكثر خطورة من الجوع، حيث تواجه فجوة قدرها 14 مليار يورو سنويًا في الإنفاق على الأمن الغذائي، وفقًا لتقرير عام 2020 الصادر عن Ceres 2030، إذ هزَّت حرب موسكو، بشدَّة، أسواق الغذاء العالمية؛ مما أجبر الوكالات الإنسانية على خفض الحصص الغذائية في دول، مثل اليمن.
لا ينتظَر من حرب كالدائرة في أوكرانيا أن تصحبها الرحمة والرأفة، ولكن هذه الدول المدَّعية للعدالة والأفضلية للعالم والناس، يفترَض أن تكون على حدٍّ، ولو أدنى، من الحرص بالظهور بمظهر إنساني
وهذه الدول الفقيرة التي تتحمَّل نظُمها وحكَّامها ونخبُها مسؤولية كبرى عمَّا آلت إليه من خيارات محدودة، ليست وحدها التي تتحمَّل هذه المسؤولية، إذ لم تكن تلك الدول في عقود الاستعمار حرَّة الإرادة، في إدارة مواردها، وهي حتى ما بعد ذلك لم تتأهَّل في الأغلب للقيادة الحقيقية وبعث القوة والنهوض.
صحيح أنه لا ينتظَر من حرب كالدائرة في أوكرانيا أن تصحبها الرحمة والرأفة، ولكن هذه الدول المدَّعية للعدالة والأفضلية للعالم والناس، يفترَض أن تكون على حدٍّ، ولو أدنى، من الحرص بالظهور بمظهر إنساني، غير إجرامي شامل، كما تمخضت، مؤخَّرًا، المباحثات بوساطة الأمم المتحدة وبرعاية تركية عن اتفاق تصدير الحبوب، والقمح الأوكراني، عبر البحر الأسود.
وصحيح أيضًا، أن أزمة الغذاء لا تعود، فقط، إلى مفاعيل السياسات الغربية، وتداعيات صراع أميركا مع روسيا والصين، إذ هناك التغيُّرات المناخية، وما خلّفته جائحة كورونا، بالإضافة إلى الأزمات السياسية الداخلية، وغياب الاستقرار عن أنظمة الحكم في تلك البلاد الضعيفة التكوين، بشكل عام، إلا أن هذا الاعتراك الدولي على تلك البلاد، ووقوعها ضحية التجاذبات، والاضطرابات، حتى في سياسة الدولة الواحدة، كما ظهر لدى أميركا من انسحاب عسكري، ثم عدولها عن القرار، من شأن تلك الظروف الخارجية أن تفاقم تأثير العوامل الداخلية السلبية، وأن تغذِّيها.