استطاع بشار الأسد عبور أصعب فترة مرت عليه عقب اندلاع الاحتجاجات في سوريا في العام 2011. وكان هو الحلقة الوحيدة التي لم تسقط ضمن سلسلة الرؤساء الذين قامت ضدهم ثورات الربيع العربي، رغم أنه كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط، أو هكذا خُيّل للسوريين نتيجة مراقبتهم للمشهد السياسي آنذاك، والذي أدى إلى هروب الرئيس التونسي وتنحي الرئيس المصري ومقتل الزعيم الليبي والرئيس اليمني. كان سقوط أولئك إما طوعاً أو بالقوة، وكانت كل المؤشرات تدل على أن مصير الأسد لن يختلف عن مصيرهم بحكم تشابه الأسباب التي أدت إلى تلك المصائر.
ورغم كل الضغوط التي واجهها الأسد في تلك المرحلة، ورغم تأكيدات المجتمع الدولي ودوله الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على مصير الأسد المحتوم وأنه راحل لا محالة، إلا أنه استطاع عبور تلك المرحلة. بدأ يجهز نفسه لمرحلة إعادة التدوير، التي أنجز جزءاً كبيراً منها بدعم دول عربية كانت في السابق رأس حربة في المطالبة برحيله، رغم أنها كانت تعتبره عبئاً على سوريا وعلى المجتمع الدولي، ومجرماً يجب أن ينال عقابه أمام المحاكم الدولية.
من هنا، كانت مراهنة السوريين على رحيل الأسد خلال سنوات الثورة منطقية وواقعية، وليست مجرد أحلام وآمال بعيدة المنال كما وصفها الأسد نفسه غير مرة. فبالمقارنة مع زملائه الرؤساء الذين سقطوا تباعاً، وبالاعتماد على مواقف الدول ذات الثقل وتصريحاتها، وبالنظر إلى مستوى الجرائم والمجازر التي تفوق فيها بشكل لا يُقارن، وبحكم الحتمية التاريخية التي تقتضي التغيير، كان من المفترض أن ينتهي حكم الأسد. لكن الأخير سخر من التاريخ وأحداثه المتشابهة، وتحدى كل الحتميات والتصريحات الدولية، وأعلن انتصاره.
وفي كل مرة تتأزم فيها الأحداث المحلية والعالمية خلال السنوات التالية على 2011، كانت الفرصة تتجدد لرؤية انعكاسات تلك الأحداث على مصير الأسد. تحديداً من خلال المواقف والتصريحات والإجراءات الأميركية مثل قانون قيصر، وحادثة حفرة التضامن، وكذلك المتغيرات السياسية الكبرى كالحرب الروسية على أوكرانيا، والتي أوحت بأن الغرب لن يقبل بحليف لبوتين وسيعمل على إزالته بلا تردد. في كل تلك الظروف التي جعلت رقبة الأسد تقترب من حبل المشنقة، كان الوريث ينجو مرة تلو أخرى، ويخرج من عنق الزجاجة.
منذ أكثر من سنة، واجه الأسد أكبر تهديد حين انتفضت مدينة السويداء وأعلنت خروجها عن الطاعة وطالبت بتنحيه ومحاكمته. كان مكمن الخطر الذي واجهه من ثورة السويداء أن كل السيناريوهات التي أعدها لثورة 2011 لا يمكن أن تخدمه هنا، إذ لا يستطيع اتهامها بأنها ثورة إسلامية، وهو السيناريو الذي استخدمه بدعم حلفائه لتغيير صورة الثورة السورية. إذا استعرنا لغة حزب الله، فإن السويداء غيّرت قواعد اللعبة وأحرجت الأسد في وقت اعتقد فيه أن الأمور استقرت لصالحه. لجأ إلى سلاح الفتنة والاتهامات، وحاول جر السويداء إلى حمل السلاح، لكن محاولاته باءت بالفشل، إلى أن قرر استخدام سلاح التجاهل.
"يعيش الأسد اليوم في دائرة من النار تحيط به من كل الجهات، ويمر بمرحلة لا يعرف إن كان سيعبرها حيث تسودها تضارب المصالح وتغيير مستمر لقواعد اللعبة..."
ورغم استمرار ثورة السويداء، إلا أن الأسد لم يعد خائفاً من نتائجها بعد إهمال المجتمع الدولي لها. بات يتعامل مع الثورة على أنها واقع لن يحدث تغييراً كبيراً، وبدأ يراهن على الزمن في إطفائها أو انطفائها تلقائياً كونها لم تؤثر فعلياً على بنية النظام، رغم الأثر المعنوي والوطني الذي أحدثته.
بعد إحساسه بأنه نجا مجدداً من عنق زجاجة جديدة، تفرغ لإعادة ترتيب بيته الداخلي وبات مطمئناً أن صفحة رحيله قد طويت للأبد. بدأ يتصرف كمنتصر فعلي، إلى أن وصلنا إلى المحطة الأخيرة المليئة بالمفاجآت والمتغيرات، وتحديداً مع تغيير جذري في قواعد اللعبة من قبل إسرائيل، بعد مقتل عدد كبير من قادة الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، وصولاً إلى مقتل حسن نصر الله، الذي لم يكن مقتله قابلاً للتصور قبل فترة قصيرة.
لقد كان مقتل نصر الله خرقاً للحصانة المتوهمة وإنذاراً مرعباً للأسد بأن كل أقطاب المحور أهداف مشروعة. أدرك الأسد للمرة الأولى بعد كابوس مقتل نصر الله أن اللعبة أكبر منه ومن حلفائه.
عاد الأسد اليوم محاصراً كما لم يكن من قبل، حيث عليه الآن أن يوازن بين جملة من التناقضات التي من الصعب، بل ربما من المستحيل التوفيق بينها: ولاؤه لإيران وحزب الله وعلاقته مع إسرائيل، وهي قضية لم تعد بالسهولة التي كانت عليها. كما عليه أن يوازن بين ولائه لروسيا وإيران، في ظل رغبة الروس بالتخلص من النفوذ الإيراني في سوريا، ورغبة إيران في الحصول على نفوذ أكبر. عليه أيضاً أن يضبط إيقاع أخيه ماهر، ويتأكد من عدم استغلاله الفرصة لإزاحته. ويجب أن يثق باستمرار الحماية الروسية لقصره، ويضمن عدم تعرضه للخيانة من إيران أو إسرائيل رغم كل ما يبديه من تنازلات للأخيرة.
يعيش الأسد اليوم في دائرة من النار تحيط به من كل الجهات، ويمر بمرحلة لا يعرف إن كان سيعبرها، حيث تسودها تضارب المصالح وتغيير مستمر لقواعد اللعبة، وإمكانية انقلاب الأوضاع في أي لحظة. ولأن الأسد يدرك جيداً أنه مجرد أداة تم استخدامها، فإن ذلك يشكل أكبر مصدر للقلق لديه، حيث تبدو المرحلة الحالية مرحلة التخلص من الأدوات واستبدالها، وهو يدرك ذلك جيداً، كما يعرف أنه لا يمكن أن يثق بروسيا كما كان يثق بها سابقاً، ولا بإيران التي قد تتخلى عنه، ولا حتى بحرسه أو أخيه.
فضلاً عن ذلك، فإن الأسد اليوم محاصر داخلياً بالعجز الاقتصادي والخدمي، ومحاصر بالمواطن الذي لم يعد يجد قوت يومه، ومحاصر بنقص المواد الأساسية كالوقود والكهرباء والماء، وبتفشي الفساد، وبحلفائه من تجار الحرب وتجار الكبتاغون الذين لا يثق بهم. ما يزال غارقاً في الديون للدول التي أسهمت في إنقاذه، كما أنه يواجه بحر الكراهية من الشعب السوري في الداخل والخارج، وحتى في مناطق سيطرته. والأهم، أنه ما يزال محاصراً بجرائمه التي لا يمحوها الزمن ولا تسقط بالتقادم، تلك الجرائم التي تطوق عنقه وتشكل زجاجة أخرى ليس لها عنق يستطيع الخروج منه.
باختصار، إن كل ما يحيط بالأسد لا يدعوه للاطمئنان، فحياته أصبحت تشبه كومة قش رشّ عليها البنزين، في انتظار من سيشعل عود الكبريت ويرميه فوقها. لقد ضاق الثوب كثيراً على الأسد، فإما أن يفتقه بيديه، أو يختنق داخله.