ما الذي يمتلكه النظام السوري اليوم ليقدمه لمحيطه العربي وللعالم، ويكرس من خلاله بقاءه وعملية إعادة تدويره في وقت واحد؟
ما البضاعة السياسية التي يروج لها الأسد ليقايض من خلالها على إعادته إلى المجتمع الدولي بريئاً من اثني عشر عاماً من الجرائم المتراكمة، والتي لم يشهد العالم مثيلاً لها ربما على مدار التاريخ؟
إن تأملنا كل الأوراق السياسية التي يمتلكها النظام، فلن نعثر إلا على ملفات مهترئة، محترقة، بل على رماد لا ثقل له ولا حجم ولا تأثير، ولا يمكن أن يشكل عامل إغراء أو يكون سبباً لصفقة مع المحيط العربي، ناهيك عن المجتمع الدولي..
ولكن مع ذلك، يتظاهر النظام اليوم بأنه يمتلك ثقلاً سياسياً يجعله محط أنظار العالم العربي ومحور اهتمامه ونقطة الجذب المركزية لحاضر العرب ومستقبلهم السياسي بل والوجودي..
ولو حصرنا كل رصيد النظام فلن نعثر إلا على ميزة وحيدة يتاجر بها ويعتمدها كأساس متين في محاولة عودته إلى الساحة العربية، ميزة مصنوعة ومتوهمة، ولكنها باتت تشكل بدهية لدى كثير من الدول العربية، وتتجسد باختصار في أن نظام الأسد أفضل من تنظيم داعش..
إن سلمنا بأن النظام أفضل من داعش فعلاً، فهل ثمة إهانة أكبر من أن تكون شرعية نظام ما ومجمل مؤهلاته السياسية ونقطة ثقله الوحيدة ومبرر استمراره وسبب إعادة تدويره قائمة على كونه أفضل من أسوأ تنظيم إرهابي عرفته الإنسانية؟
وربما يجدر بنا في هذا السياق التذكير بأن الذهنية الداعشية كانت متسقة تماماً مع ذهنية النظام فيما يتعلق بأشكال الجريمة وفنون التوحش، فضلاً عن أن جرائم داعش العلنية بقيت أقل بكثير من جرائم النظام، والأهم من كل ذلك أن داعش كان الأداة التي ضربت خصوم النظام ولا سيما الجيش الحر، وأن التنظيم هو الذي خلص الأسد من المأزق الأخطر الذي مر به وأعطاه الشرعية لضرب المعارضين بشكل علني تحت ذريعة محاربة الإرهاب..
منذ انطلاقة الثورة السورية، كرّس نظام الأسد كل وسائله وأدواته وأبواقه لإثبات أنه أفضل من البديل الإسلامي المحتمل، وذلك قبل أن تلوح لذلك البديل ملامح في الأفق، وقبل أن تقتحم الثورة تيارات ذات صبغة إسلامية، وقد دأب النظام على تحويل فرضياته إلى واقع، على المستوى السياسي أولاً ثم على المستوى العسكري من خلال صناعة ذلك البديل المرعب واعتماده أداة لتغيير حقيقة الحدث وتصدير نفسه على أنه ضحية الإرهابيين الظلاميين الذين يستهدفون المصالح الوطنية وبنية الدولة، وأنه، أي النظام، المعني بالدفاع عن وحدة الوطن.
ولد تنظيم داعش من رحم البديل المفترض لنظام الأسد، بدأ جنينياً ببعض المجموعات الإسلامية التي تزامن ظهورها مع رواية الأسد عن البديل الإسلامي
ولد تنظيم داعش من رحم البديل المفترض لنظام الأسد، بدأ جنينياً ببعض المجموعات الإسلامية التي تزامن ظهورها مع رواية الأسد عن البديل الإسلامي، وكلما كانت وتيرة الثورة تتصاعد، كان ذلك الجنين يكبر مؤذناً بولادة التنظيم الأكثر خطراً "داعش"، والذي كبر وجوده وترسخ بالتزامن مع الانهيار شبه التام لنظام الأسد والذي كان يعيش حينها سكرات الموت.
وقد أثبتت سيرورة الأحداث بما لا يدع مجالاً للشك أن تنظيم داعش كان النموذج المتكامل والمثالي الذي رأى فيه النظام طوق النجاة، ومن يومها وهو يركز في خطابه وروايته وحججه ومفاوضاته وحربه، على فكرة أنه أفضل من "داعش" ولا يزال ذلك جوهر خطاب النظام وأساس روايته التي اتكأ عليها للبقاء في السلطة..
وعلى ذات الذريعة، تستند الدول العربية المهرولة للتطبيع مع نظام الأسد، حيث تتبنى تلك الدول نظرية أن الأسد أفضل من داعش، أفضل من بديله الوحيد المتوهم، وبخلاف ذلك لن تجد الدول المطبعة ما تعتمد عليه في تبرير تقاربها من نظام الأسد، وتسامحها معه، بل وسعيها لإعادة إحيائه وتدويره واسترداد شرعيته، فما الذي سيقدمه النظام السوري للبلدان العربية؟ ما المصلحة السياسية التي يمكن أن تربط تلك البلدان بنظام متهالك ومنهار على كل المستويات، بل وحتى منبوذ دولياً؟ ما مصلحة تلك الدول في إقامة علاقات دبلوماسية مع مجرم حرب وتاجر مخدرات تتراكم الأدلة كل يوم على مدى إجرامه السياسي والجنائي؟
لو أن ما يجذب تلك الدول لنظام الأسد هو الأطروحات القومية العروبية، فسوف تواجهنا علاقة الأسد بإيران، بل وتبعيته شبه الكاملة لها فضلاً عن تبعيته لروسيا، مما سينفي تماماً حالة العروبة لديه، ولا سيما بعد انكشاف مشروع إيران المعادي بالمطلق للعرب، وإذا كان موقفه من إسرائيل هو الدافع الأساسي لتلك الدول باعتباره نظاماً ممانعاً ومقاوماً، فإن ذلك سيصطدم بواقع لا يمكن إخفاؤه أو تجاهله وهو أن معظم تلك الدول لديها أفضل العلاقات مع إسرائيل، فضلاً عن أن النظام نفسه لا تربطه حالة عداء مع إسرائيل، الأمر الذي تثبته كل الشواهد والمعطيات.
في هذا السياق، سيواجهنا النموذج السعودي الذي نشط في الفترة الأخيرة بشكل كبير في موضوع إعادة العلاقات مع الأسد واستماتته في محاولات إعادة تدويره وإعادته للجامعة العربية أيضاً، بينما كانت السعودية أحد أهم المعارضين لمثل هذا الطرح، وظلت حتى فترة قريبة لا ترى بديلاً عن إسقاط الأسد حسب تصريحات مسؤوليها، ورغم أن شيئاً لم يتغير في سلوك نظام الأسد، ورغم أن الأسباب التي أدت إلى قطع السعودية علاقتها مع الأسد لا تزال كما هي، إلا أن السعودية انقلبت تماماً على موقفها القديم دون أي حدث يبرر ذلك التحول.
فيما يتعلق بالدول التي نشأت فيها أنظمة مضادة للربيع العربي، فمن البدهي أن تصطف مع الأسد بحكم الخصم المشترك، حتى وإن لم يجمعها معه أي مصلحة أخرى، وبصرف النظر عن اختلافها وخلافاتها معه، وذلك الخصم هو فكرة الربيع العربي بحد ذاتها.
لقد شكلت تلك الأنظمة العربية حلفاً علنياً في بعض جوانبه، وخفياً سرياً في جوانب أخرى ولكنه يلتقي على ضرورة محاربة الثورات بصرف النظر عمن قاموا بها وعن أهدافها، واتهامها فوراً بالداعشية والإرهاب، وهي الوصفة السحرية التي نجح الأسد في استخدامها واستعارتها منه كل تلك الأنظمة المضادة للربيع العربي.
ولربما كان النموذج السعودي هو النموذج الفريد فيما يتعلق بحماسته المفاجئة وتلهفه للتطبيع مع الأسد بعد أحد عشر عاماً من الخطاب العدائي تجاه السعودية، الخطاب الذي لم يحمل يوماً طابعاً سياسياً، وإنما كان خطاب كراهية وحقد وتحريض واتهامات كبيرة أقلها وصفه للسعودية على أنها رأس حربة في المؤامرة الكونية عليه، تلك المؤامرة التي دمرت سوريا وتسببت في مقتل مئات الآلاف من شبابها وتحديداً من أتباع النظام، ذات الخطاب الذي لم يترك نقيصة إلا ووصف بها السعودية، يتحول بين عشية وضحاها إلى خطاب معاكس تماماً، خطاب يتحدث فيه النظام السوري عن المحبة والروابط الأخوية وعمق العلاقات مع السعودية وأهميتها في الشأن العربي والدولي، وكل مفردات الغزل السياسي الأخرى التي باتت تشكل قاموس لغة النظام تجاه السعودية.
لو كان موقف الأسد السابق ضد السعودية مبنياً على ثوابت وطنية، لما كان لهذا الموقف أن ينقلب في لحظة، فشواهد الجرائم التي ارتكبتها السعودية ضد سوريا -على حد ادعاءات نظام الأسد منذ اثني عشر عاماً- لا تزال موجودة، وكذلك الدمار الذي ألحقه الإرهابيون التابعون للسعودية، وربما الأهم هو ما يتعلق بتنظيم داعش الذي حمل النظام مسؤوليته لكل خصومه، ولكنه ركز على السعودية على اعتبارها مصدرة حصرية للفكر الوهابي، وها هو اليوم يتصالح مع من اتهمهم بصناعة ذلك التنظيم دون أن يشترط على السعودية مثلاً الاعتذار عما فعلته في سوريا، وهذا التسامح لا يعني إلاّ شيئاً واحداً وهو أن النظام يكذّب روايته عند أول مفترق للطرق، وقبل أن تجف دماء ضحاياه الذين يحمّل الأسد ونظامه الجزء الأكبر من مسؤولية مقتلهم لذات الساسة السعوديين الذين يحتفي بمصالحتهم اليوم.
لو كان النظام متسامحاً إلى تلك الدرجة، لتوقف عن توعّد السوريين الذين لم يفعلوا شيئاً سوى إعلان موقف مضاد للقتل والجريمة، ولأفرج قبلها عن المعتقلين وركز على إعادة اللاجئين، ثمة سلسلة طويلة من الإجراءات الخاصة بالشعب السوري التي كان على النظام أن يفعلها قبل أن يظهر الوجه المتسامح مع الدول التي تآمرت عليه حسب روايته ذاتها.
إن انفتاح النظام على السعودية هو إقرار صريح بأن كل ادعاءاته عن تورط السعودية، لم تكن إلا للبحث عن طرف يحمله مسؤولية المؤامرة، ومن ناحية ثانية فهو إقرار صريح من النظام بتبعيته لإيران، حيث تصاعدت نبرة العداء للسعودية بالتزامن مع عداء إيران لها، ثم تحولت إلى نقيضها تماماً فور المصالحة السعودية الإيرانية..
ربما كان على نظام الأسد أن يتمهل بضعة أشهر، أو على الأقل بضعة أسابيع قبل أن يوفد وزير خارجيته إلى السعودية لبدء عملية التطبيع معها، أما أن يفعل ذلك مباشرة عقب التحول في العلاقات السعودية/الإيرانية، وبهذا الشكل المستعجل، فهو يعني أن عداء النظام مع السعودية كان بقرار إيراني، تماماً كما هو الأمر مع قرار المصالحة.
لو كان للحقيقة شأن ووزن في سياسة النظام لسافرت الأسئلة الهامة والجوهرية على متن الطائرة ذاتها التي استقلها فيصل المقداد باتجاه الرياض وحاصرته وأحرجته، تلك الأسئلة التي لا بد أن تستنكر بيع النظام لدماء ضحاياه وفتح صفحة جديدة مع من تسبب بمقتلهم على حد روايته ذاتها.
سيناريو داعش المفكك والمفضوح لا يزال الورقة السياسية الوحيدة التي يلعب بها النظام رغم زوال التنظيم شبه التام، وهو الورقة الوحيدة أيضاً التي تتمسك بها الدول الساعية للتطبيع مع الأسد، والتي تعي جيداً أكذوبة تنظيم داعش وتعرف منشأه ودوره، وتعرف أنه ورقة معيبة ولا تكفي لإعادة تدوير نظام متوحش، ولكن قتل الخصم المحتمل قبل ولادته، أصبح هدفاً للدول المطبّعة، وذلك الخصم هو حلم الشعوب بالحرية والعدالة، ذلك الحلم المحرم الممنوع الذي تضع الدول العربية المطبّعة مع الأسد كامل ثقلها ليس لإجهاضه وحسب، بل ولاستئصال أي جذور قد تنمو في فترة معينة وتمتد إلى عروشهم وقصورهم..
تحاول الدول العربية الساعية للتطبيع مع الأسد رش الفلفل السياسي على جثة النظام، بعد أن استخرجتها من الثلاجة ووجدتها صالحة للاستهلاك السياسي، ولكن لن يصلح العطار ما أفسد الدهر، ولن تستطيع بهارات العالم مجتمعة أن تخفي رائحة الجيفة التي تفسخت منذ سنوات وبات من المستحيل إعادة إحيائها..