يكثر الحديث اليوم عن طبيعة الدولة المنشودة بعد الخلاص من حالة السكون التي كانت تعيشها سوريا بكل مفاصلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، حيث حوّلها نظام العائلة الأسدية اللصوصي إلى مزرعة تحكمها الاستثناءات.
هذه الاستثناءات التي فكّكت النسيج السوري إلى حبات رمل متناثرة لا تجد لها غير من يجمعها سوى التمسك بانتماءات، أقلّ ما يقال عنها إنها لا تفيد في بناء الدولة، مثل الطوائف والعشائر والمناطق والعائلات، بينما يتم نسيان الدولة بحد ذاتها ككيان قانوني يحكم وفق قانون معين ضمن نطاق جغرافي محدد وفق علاقة تتسم بالرضا والقبول من الناس تجاهها، تمكن السلطات من تنفيذ القوانين ضمن ذلك الحيز الجغرافي وقبولها من السكان.
لقد خرجت سوريا من نصف قرن من الجمود، الذي يقترب من الموت، حيث تكشف الوقائع التي تظهر يومياً عن أن نظام الأسد قد حول جغرافيتها إلى مقابر حقيقية إلى مئات الآلاف من السوريين وغيرهم، الذين حلموا ذات يوم بحريتهم وببناء دولة لا تقتلهم مع غيرهم، ناهيك عن العذاب الذي ذاقوه في رحلتهم نحو الموت.
يعرف المتتبع لتاريخ سوريا في عهد الأسدين مآلات السياسة والأحزاب السياسية وقدراتها، فلا شك أنها حاولت أن تقاوم وترفض شروط العيش الأسدية، فدفعت أثماناً باهظة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الكيان..
فَتَحَ الخروج هذا أو الخلاص من النظام الأسدي الطريق أمام السوريين للتفكير بتصور مستقبل لهم بعد أن كان الأمر مستحيلاً، فالحياة في ظل الأسدية تكرار لمشاهد قتل الحياة في كل تنوعها، لا سياسة ولا اقتصاد ولا اجتماع من دون موافقة وهيمنة الأسديين، ومن يخرج عن القاعدة مصيره معروف، وفي حال كتبت له النجاة فهو يعيش بظروف غير طبيعية لا تمكنه من الاستمرار، وبالنهاية تدفعه نحو الموت.
يعرف المتتبع لتاريخ سوريا في عهد الأسدين مآلات السياسة والأحزاب السياسية وقدراتها، فلا شك أنها حاولت أن تقاوم وترفض شروط العيش الأسدية، فدفعت أثماناً باهظة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الكيان، حيث كان جلَّ نشاطها ينحصر في كيفية التهرب من أجهزة المخابرات، وبالتالي لم يكن بمقدورها ممارسة السياسة كنشاط اجتماعي بشري، وإنما كنشاط دعائي، وهو ما يتجلّى اليوم في ضعف أو غياب قاعدتها الاجتماعية وحضورها، وسط عملية التغيير الكبرى وانحسارها إلى أصوات فردية متناثرة تتعامل مع السياسة كأمنيات يجب على الجميع تلبيتها.
أمّا بالنسبة لما يعرف بالكيانات المندرجة تحت ظل الأسدية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال تسميتها بالأحزاب، فهي ليست أكثر من حلقات تهريج دعائية من جهة، ومن جهة أخرى، إحدى وسائل الأسدية في الهيمنة.
الركن الآخر المهم هو المجتمعات والنشاطات المدنية، التي تتمثل في النقابات والجمعيات والمنظمات والنوادي وغيرها من الكيانات التي تمارس الأنشطة الجماعية، بمعنى التفاعل بين أعضائها وفيما بينها ككيانات، وهي أيضاً لم تنجُ من فظائع الأسدية، على الأقل من فترة الثمانينيات حيث آخر المواقف للنقابات، فحولها حقيقة إلى ما يعرف وفق اللغة الأسدية إلى منظمات "شعبية"، يجري تعيين مجالسها بقرار من الحزب الحاكم وموافقة المخابرات (في فروع الحزب والمخابرات هناك مكاتب وإدارات لكل الفعاليات: النقابات، الطلاب، المعلمين، الأحزاب، وغيرها).
وتحدّد مهامها في مديح الأسدية كحالة غير بشرية، حالة من القطيعية، هذه الأسدية التي تفسح المجال لها لممارسة كل أشكال الفساد والتربح مقابل الولاء أولاً، وأن تكون عيناً لها (مخبرين) بين أعضائها، وحتى ما شهدناه لتجمعات تنسب زوراً لمجتمع مدني وقت الثورة، لم يكن أكثر من شركات خدمات صغيرة تمارس مهمة محددة، لسبب بسيط وهو غياب الإطار القانوني الذي تمثله الدولة، وهي الأب والأم للمجتمع المدني.
أمام هذا الواقع الذي عاشته سوريا لعقود مظلمة، والذي ولّى إلى غير رجعة منذ أيام، تعود السجالات التي تكرس الاختلاف إلى الواجهة، وهي السجالات والاتهامات التي لم تنقطع بين السوريين حتى أيام النظام الأسدي، وتتلخص بطبيعة ومواصفات الدولة المنشودة: دينية، علمانية، مدنية، ديمقراطية.
وتنعكس هذه الصفات على الأشخاص بتصنيفات كثيرة: علماني، سلفي، ديمقراطي، وتتحول إلى مذاهب وعقائد تضيف خنادق جديدة بين السوريين، الذين يتفقون عموماً على غياب السياسة أولاً في عهد الأسديين، وبالتالي غياب النقاش العام بين الناس.
هذا السجال الذي كان يغيب عنه فكرة الدولة ككيان قانوني متوافق عليه لتنظيم العلاقة بين القوى المتصارعة سلمياً، كيان يحتكر وحده قوة تنفيذ القوانين الناظمة في ذلك الكيان، ويوصلنا إلى حالة ابتلاع الصفات للموصوف: العقائد والمذاهب للدولة.
بالتأكيد، هناك تفاعل جدلي بين الصفة والموصوف، بين الدولة ومرجعيتها، بعيداً عن كونها كياناً عقائدياً، جهازاً مرتبطاً بعقيدة معينة أياً كانت: حزبية أو مذهبية، هذا التفاعل تحدده طبيعة القوى المتصارعة وحضورها وتمثيلها أكثر ما تحدده التطلعات والأمنيات، وهو ما يفرض الابتعاد عن التفكير الرغبوي والانتقال إلى الفعل السياسي كتجسيد سلمي لصراع القوى والفعاليات الاجتماعية بعيداً عن الاشتراطات التي تكرس الخندقة، وبالتالي نقل التصارع إلى وسائل غير سلمية.
كانت سوريا تعيش بحالة من القوانين الاستثنائية، بمعنى تغيير القوانين تبعاً لما تراه الأجهزة المخابراتية -الحاكم الحقيقي للبلاد- هذا الأمر الذي ينفي تماماً وجود الدولة في سوريا، بمعنى مؤسسات ينظم عملها قانون عام، ويجعل منها سلطة جهاز لتحقيق غاية واحدة: إخضاع العباد لمصلحة الحاكم..
والأمر الآخر أن تلك المرجعيات مهما كانت هي مرجعيات مؤقتة، بمعنى أنها قابلة للتغير تبعاً لشروط الحياة البشرية من سياسة واقتصاد وفكر، وهو ما يجب التركيز عليه، بمعنى نفي الصفة المؤبدة عن تلك المرجعيات، حتى لو كانت نصوصاً دينية، وهذا هو أول أسس الديمقراطية التي ستكون الوسيلة لبناء الدولة أولاً، فضلاً عن أنها ستكرس القيم العادلة في المجتمع.
كانت سوريا تعيش بحالة من القوانين الاستثنائية، بمعنى تغيير القوانين تبعاً لما تراه الأجهزة المخابراتية -الحاكم الحقيقي للبلاد- هذا الأمر الذي ينفي تماماً وجود الدولة في سوريا، بمعنى مؤسسات ينظم عملها قانون عام، ويجعل منها سلطة جهاز لتحقيق غاية واحدة: إخضاع العباد لمصلحة الحاكم، الذي جعلت منه تلك الأجهزة "إلهاً" لا يجوز ذكره إلا بالتمجيد.
كل هذا يدفعنا إلى العمل المشترك لبناء مؤسسات الدولة الديمقراطية التي تفسح المجال أمام تطورها، وليكن تاريخ تشكل الدول تجربة لنا، فالنموذج الحالي السائد وهو في الغرب عموماً هو نتاج قرون من النضال والصراع والتضحيات، وهذا لا يعني المرور بنفس التجربة وعبر الزمن نفسه، بل إن عملية التشكل تاريخية مستمرة.