في خضم دوامة العنف الخطيرة واستمرار التدهور الاقتصادي وتردي الوضع الإنساني وكل تداعيات التصعيد الإقليمي والمخاطر الجسيمة الناجمة عنها لا سيما على القضية السورية ومعاناة الشعب واللاجئين والنازحين السوريين، يعود النظام السوري هذه السنة أيضاً، وللمرة السادسة منذ صدور القرار الأممي 2254 (2015) وكما هي عادته عند كل انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية، ويغض الطرف عما يفرضه الحل السياسي المتفق عليه دولياً للقضية السورية، ويُجري انتخابات تشريعية دون أن يكون هناك بيئة مواتية أو موثوقة لهذه الانتخابات، وضمن قوانين انتخابية بالية غير عادلة تحتاج إلى تغيير جذري، ووفق آلية لا تسمح لأحد - سواء أكان وسائل إعلام أو جهات دولية أو أطراف حيادية - بالمراقبة أو التأكد من سلامة سير العملية الانتخابية، والأهم من هذا وذاك أنه يسير في هذه الانتخابات متحدياً خصوصاً القرار الدولي 2254.
على مدى خمسة عقود، كانت الانتخابات البرلمانية في سوريا تُعاني من انعدام الشفافية والنزاهة وبُعدها عن الديمقراطية، واتّسمت بالفردية والمحسوبيات واختلال التمثيل، والتزوير المباشر وغير المباشر، والقوائم المُعدّة مسبقاً، وقوائم العمال والفلاحين الوهمية، وكانت تجري وسط أجواء من القمع وتسلّط الأجهزة الأمنية والتضييق على الحريات السياسية والمدنية.
طوال العقود الماضية، سيطر حزب البعث على القوائم الانتخابية البرلمانية نظرياً، فيما كانت أجهزة الأمن تُسيطر عليها عملياً، وكان الحزب واجهة يُحرّكها النظام الحاكم وأجهزته الأمنية، ولم يكن أمام السوريين سوى المشاركة الشكلية تحت ضغط الخوف، أو فقدان الأمل من أي شفافية، أو القناعة بأن صوت السوري لا يُساوي شيئاً أمام عمليات التلاعب والتزوير والقوائم المُعدّة مسبقاً وآخرها ما يدعي من إصلاحات وتحديث واستئناس في عملية الانتخابات ، وهو أمر عمّق الفجوة بين الشعب وممثليه في البرلمان، ودفع السوريين للاقتناع بأن مهمّة مجلس الشعب التهليل لمنجزات السلطة، وتنفيذ أوامرها، وممثلون لمسرحية هزلية وهمية حول الديمقراطية.
بالإضافة إلى كل خروقات وعبثية وصوريّة هذه الانتخابات، لا ننسى أن انتخابات النظام هذه بعيدة كل البعد عن تعددية المشهد السياسي للمجتمع والتمثيل الحقيقي لمكونات الشعب وبنية الوطن السوري المتعدد والمتنوع دينياً واثنياً، وهما عنصران أساسيان لأية ديمقراطية، وكذلك بعيدة تماماً عن مفاهيم المواطنة المتساوية، ولا يمكن أن يُبنى وطن دون مساواة كاملة بين المواطنين.
بات معروفاً أن النظام السوري يتهرّب من الحل السياسي في كل بنوده، فهو يتهرّب من استمرار عقد جلسات اللجنة الدستورية، ومن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي التي تُشرف على الانتخابات في البلاد
كان قانون الانتخابات السوري – وما زال – يحتاج لتغيير شامل، ليضمن مستوى جيداً من الديمقراطية والشفافية والتمثيل المتوازن والحقيقي، كما كانت الانتخابات السورية – وما زالت – لا تُحقّق الحد الأدنى من المعايير الانتخابية الدولية، ولا تحترم المعاهدات والاتفاقيات التي قبلتها سوريا كالتزامات، وعليه لا يمكن للعملية الانتخابية في سوريا أن تكون مقبولة دون أن يكون هناك إصلاحات واسعة انتخابية على المستويات الدستورية والتشريعية والقانونية والإدارية.
يهرب النظام السوري إلى الأمام في عقده هذه الانتخابات، ويستمر برفض الالتزام بالقرارات ذات الصلة بالقضية السورية، ويُخالف بشكل واضح وفاضح هذه القرارات وخاصة القرار 2254، الذي يدعو إلى إجراء انتخابات في مسار الحل السياسي، تُشرف عليها هيئة حكم انتقالي، وتُقام في بيئة آمنة ومحايدة، ويُشارك فيها كل السوريين داخل سوريا وخارجها، وتخضع لمراقبة وإشراف دوليين لضمان تحقيق الشفافية والنزاهة.
لقد بات معروفاً أن النظام السوري يتهرّب من الحل السياسي في كل بنوده، فهو يتهرّب من استمرار عقد جلسات اللجنة الدستورية التي من المفترض أن تضع أسساً جديدة للانتخابات في الدستور، كما يتهرب من تشكيل هيئة الحكم الانتقالي التي تُشرف على الانتخابات بكافة مستوياتها وتُعدّل قوانين الانتخابات وقوانين الأحزاب، وتضمن البيئة الآمنة التي تسمح بإجراء انتخابات حرّة وديمقراطية، كما يرفض المراقبة والإشراف الدولي على كل أنواع الانتخابات، التشريعية منها والرئاسية، وأخيراً يستمر باستبعاد ملايين السوريين الهاربين من بطشه ولا يسمح لهم بالمشاركة بالتصويت والاقتراع.
من المفترض أن يكون لمجلس النواب السوري دور بارز وأساسي في سنّ التشريعات ووضع القوانين، وهذه عملية غاية في الأهمية، ومن المفترض أن يقوم بها ممثلون حقيقيون عن الشعب، يحملون هموم المواطنين وقضاياهم ويهتمون بمستقبلهم، أكفاء وقادرون على الدفاع عن حقوق ممثليهم، ولهذا فإنه لا يمكن أن يكون في سوريا مجلس نواب حقيقي دون أن يكون هناك انتخابات عصرية حرّة ديمقراطية وشفافة، تأتي مُكمّلة لدستور جديد يحتاجه السوريون وتضعه لجنة دستورية، ويتزامن مع بسط هيئة الحكم الانتقالي الأمن في أنحاء الوطن، لتُفتح الأبواب أمام كل السوريين للمشاركة لاختيار ممثليهم الحقيقيين تحت قبة البرلمان، وكل هذا لا يحدث في سوريا ولا في أدنى مستوياته.
كان من الأولى للنظام السوري أن يلتزم بالقرارات الدولية، ويمضي قُدماً بالحل السياسي، الذي وحده يمكن أن يوقف تدهور حال سوريا، ويفتح الطريق أمام وحدة وطنية حقيقية، وأمن مستدام، وتشاركية على كافة المستويات، وحياة برلمانية حقيقية، وانتخابات رئاسية غير مزوّرة، ودولة المواطنة الديمقراطية الحرّة.
كان من الأولى للنظام السوري أن يعيد حساباته ويمضي بتنفيذ القرارات الأممية 2118 و2245 وغيرها، ويُنهي ملف الملاحقات الأمنية وملفات المعتقلين والمختفين قسرياً، ويعود لاجتماعات اللجنة الدستورية، ويقبل بالتغيير السياسي الحقيقي، ليجري تعديل قانون الانتخابات ليتوافق مع مبادئ سيادة القانون واستقلال السلطة التشريعية، وتُلغى نسبة مقاعد العمال والفلاحين، وتُعتمد طريقة أخرى لتوزيع المقاعد على الدوائر الانتخابية، وتُقلص سلطة الرئيس في الانتخابات، ويضمن السوريون حق العودة الطوعية والآمنة والكريمة ليشاركوا في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ويسمح للأمم المتحدة بالشراكة في إدارة الانتخابات ومراقبتها ، لتشكيل سلطة تشريعية وتنفيذية كأي دولة ديمقراطية تعددية تداولية.
نؤكد أخيراً، أن الظروف الراهنة في سوريا لا تسمح على أي مستوى من المستويات بإقامة انتخابات حرّة وحقيقية، والتركيبة القانونية الحالية لا توفّر أية ضمانات لإدارة عملية انتخابية مستقلة وصحيحة، كما أن الوضع الأمني غير مستقر ولا يسمح بدوره بإجراء هذه الانتخابات، فيما تغيب الحريات الإعلامية ولا يُسمح للسلطة الرابعة أن تكشف التزوير والخروقات وتفضح تدخّل الأجهزة الأمنية والقصر الجمهوري في هذه الانتخابات، وتغيب التعددية السياسية والتنافسية بشكل كامل.
إن رفضنا لهذه الانتخابات، إنما هو دعوة لحتمية إعادة النظر في الدستور وتعديله، وتعديل القوانين بما يتوافق مع الدستور الجديد وعلى رأسها قانون الانتخابات، وإنشاء مؤسسة لإدارة العملية الانتخابية من قبل هيئة حكم انتقالي أقرّها القرار الدولي 2254، تكون مستقلة وبعيدة عن التأثيرات السياسية ، مؤسّسة مشتركة بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية للدولة، تتمتع بالصلاحيات والمسؤولية لإدارة كافة جوانب العملية الانتخابية والإشراف عليها، وضمان مشاركة كل السوريين في هذا الاستحقاق بمن فيهم من هم في الخارج، واحترام المعايير الدولية للعمليات الانتخابية، وفتح الانتخابات للمراقبة الدولية، وعدم استخدام مجلس النواب كدمية لإجراء تعديلات دستورية عاجلة ليضمن رأس النظام بقاءه في السلطة إلى الأبد، ودون ذلك فإن مجلس النواب لن يكون لساناً وصوتاً للسوريين، ولن يكون له شرعية في سن التشريعات ووضع القوانين، وستبقى السلطة الاستبدادية في سوريا تدور في مكانها، مبتعدة كل البعد عن الحل السياسي والديمقراطية، وسيستمر التدهور الأمني والمجتمعي والتشريعي والقضائي، وسيستمر تحكّم القبضة الأمنية بالبرلمان والشعب والدولة، وستستمر السلطة التنفيذية بابتلاع السلطة التشريعية، ولن يستطيع السوريون بناء مستقبل مستقر وآمن وكريم أبداً.
نقطة أخيرة، إن تُغيّب الدور الحقيقي والفاعل للمجتمع المدني السوري في العملية الانتخابية يقودنا ضمن إطار فتح السلال الأخرى إلى طرح مبدأ التشكيل الثلاثي الذي اعتمدته الأمم المتحدة كنموذج اللجنة الدستورية التي بُنيت على ثلاثة أطراف، المعارضة والنظام والمجتمع المدني، واعتماده أيضاً لفتح سلة الانتخابات.