تحظى الانتخابات الأميركية منذ عقود بأكبر قدر من الاهتمام الإعلامي والسياسي والاقتصادي على مستوى العالم أجمع، على الرغم من كونها من حيث التعداد السكاني ثاني أكبر ديمقراطية (بعد الهند)، ومن غير احتساب الصين بسبب نظامها الشمولي.
التأثير العالمي للولايات المتحدة الأميركية منذ حسمها الحرب العالمية الثانية وفرض ذاتها كقوة مهيمنة غربيًّا، ثم تفردها بعد تفكك المنظومة الشرقية وزعامتها السوڤييتية، يجعل كل السياسات العالمية بأيديولوجياتها واستراتيجياتها واقتصاداتها شديدة التأثر بما يحدث في أميركا، حتى في الدول والمنظومات المضادة، حيث لكل فعل ورد فعل ارتباطه بشكل ما بالسياسة الأميركية، تلك السياسة التي قلما تتفق حولها الآراء كونها غير أيديولوجية، ولا يمكن التكهن بالمخبوء استراتيجيًّا في صناديقها السوداء، ما يجعل الأنظار، في داخلها وخارجها، تتجه أكثر إلى منافسات الأرقام، سواء على صعيد الاقتصاد وهو المحور الأهم في معظم السياسات بمنعكساته على الصعد كافة، أم حتى على صعيد الإحصاءات الرقمية التي لا تخلو من غرائب وطرافات، وصولًا إلى أهمية تحقيق أرقام شخصية متفردة للمرشحين والفائز بالرئاسة.
أرقام خيالية
أهم الأرقام ما يتعلق بالاقتصاد كونه العصب الحساس والمحرك الأساس، وفيه نجد أن الناتج المحلي للاقتصاد الأميركي، الذي بات يقارب خمسة وعشرين تريليون دولار، يشكل وحده نحو ربع الإنتاج العالمي، وما يقرب من ضعف الإنتاج الصيني، وأكثر من مجمل إنتاج الاتحاد الأوروبي، بل إنه يزيد عن مجمل إنتاج (175) دولة متبقية من غير ما ذُكر، مع الأخذ بالاعتبار أن أرقام الناتج المحلي لا تتضمن ما تحققه السياسات الأميركية خارجيًّا من مكاسب إضافية لاقتصادها لا تدخل في نطاق الإنتاج المحلي.
الرقم الثاني (الخيالي) في الميزانية السنوية الأميركية التي قاربت في العام الحالي سبعة تريليونات، أكثر من ثمنها ميزانية عسكرية. وهو ما زال يفوق بأضعاف أية ميزانية لدولة في التاريخ، وأيضًا مع الأخذ بالاعتبار عدد السكان الذي هو في الولايات المتحدة أقل من الربع للدولتين الأكثر سكانًا كالهند والصين التي قاربت كلٌّ منهما (مليارًا ونصف المليار نسمة).
لكن تلك الأرقام بفوارقها الكبيرة لا تجعل الولايات المتحدة بمنأى عن خطر التنين الصيني القادم بقوة، وبحسابات دقيقة لتسارع نموه المترافق بقوة بشرية مليارية، لمنافسة العملاق الأميركي الذي بدأت تشب في مفاصله أمراض شيخوخة الدول والإمبراطوريات، بل إن مجمل الحسابات الأميركية ومراكزها البحثية تقدم عصارة أفكارها وخططها واستراتيجياتها لمنع تفوق الصين حتى منتصف هذا القرن لا أكثر.
تجاوز الإنفاق على الحملة الحالية للحزبين خمسة عشر مليارًا، وهو رقم أعلى من كل أرقام الحملات في الدورات السابقة، لكنه لم يصل، كما كان متوقعًا، إلى حدود العشرين مليارًا.
أكثر من ربع الأميركيين لا يصوّتون
يجيز القانون الأميركي للأحزاب والمرشحين الإنفاق على حملاتهم الانتخابية من غير تحديد سقف مالي، لكن التبرع من الأفراد والشركات والمؤسسات يخضع لأنظمة ونظم، والأهم لشفافية في رأسها عدم التستر، حين مطالبة الجهات المعنية، عن أي مبلغ داخلي، وعدم قبول أي تمويل خارجي.
تجاوز الإنفاق على الحملة الحالية للحزبين خمسة عشر مليارًا، وهو رقم أعلى من كل أرقام الحملات في الدورات السابقة، لكنه لم يصل، كما كان متوقعًا، إلى حدود العشرين مليارًا، بسبب تأخر الديمقراطيين في ترشيح (كامالا هاريس) التي حظيت عبر شهرين بأكبر رقم داعم، بعد عزوف كثير من الممولين عن تقديم الدعم لبايدن لمعرفتهم المسبقة بهزيمته نتيجة ما ظهر عليه من عوارض أمراض الشيخوخة واضطراب التركيز خلال ولايته.
المستغرب أمام الأرقام المليارية لحملات المرشحين على بذخها في كل أنواع الإنفاق ومحاولاتها جذب أكبر عدد من الناخبين لإعطاء صوتهم لمرشحي الحزب سواء في الرئاسة أو مجلسي النواب والشيوخ، لم تفلح في التأثير على أكثر من سبعين مليونًا من الأميركيين الذين يحق لهم التصويت فأكبر نسبة للمصوتين في الانتخابات السابقة لم تتجاوز 70% إلا بقليل، فيما يبقى دائمًا، وحتى الآن، أكثر من الربع غير معني ولا مكترث بالانتخابات وبرامجها ونتائجها!؟
أرقام شخصية واستطلاعات الرأي
حفل تاريخ الانتخابات الأميركية بأرقام شخصية لبعض الرؤساء متفاوتة الأهمية لكنها تبقى علامة مميزة في سجلات تاريخهم الشخصي وتاريخ الرئاسة الأميركية.
على سبيل المثال كان الرئيس روزفلت الوحيد الذي انتخب لأكثر من ولايتين رئاسيتين، فبعد إتمامه ولايته الثانية خلال الحرب العالمية الثانية، فاجأ الجميع بإصراره على الترشح لولاية ثالثة، متمسكًا بعدم وجود نص قانوني يمنع، إذ كان عدم الترشح هو عرف سنّه الرئيس (جورج واشنطن) عندما رفض الترشح لولاية ثالثة داعيًا إلى اكتفاء الرئيس بدورتين فقط. نجح روزفلت في الدورة الثالثة عام 1940، ثم أتبعها بالفوز بولاية رابعة 1944، لكن الموت عاجله في بدايتها 1945 وقبل نهاية الحرب. لعل ذلك ما دعا في العام 1947 إلى تعديل المادة (22) من القانون لتنص صراحة على عدم جواز تولي الرئيس المنتخب الرئاسة لأكثر من دورتين متصلتين أو منفصلتين. فيما يسجل تاريخ الرئاسة استقالة واحدة للرئيس كان صاحبها (ريتشارد نيكسون 1974) أمام ضغوط فضيحة التجسس على مقرات الحزب الديمقراطي المعروفة بـ(ووترغيت) فأكمل الولاية نائبه (جيرالد فورد). أما الرئيس باراك أوباما فتفرد بأنه أول رئيس ملوّن مسجلًا سابقة في التاريخ الأميركي مع مطلع الألفية الثالثة، بعد عهود من التمييز العنصري.
في لعبة الأرقام ومنافساتها على الصعيد الشخصي لكل من المرشحين الحاليين، يطمح (ترامب) لتسجيل رقم لم يحققه عبر تاريخ الانتخابات سوى رئيس واحد، قبل أكثر من مئة وثلاثين عامًا، عندما استطاع الرئيس (غروفر كليفلاند عام 1892) العودة إلى الرئاسة لمرحلة ثانية غير متصلة، فيما فشل خمسة آخرون من الرؤساء الأميركيين في العودة.
أما هاريس التي استطاعت أن تكون أول امرأة تصل لمنصب نائب الرئيس، فتطمح لرقم غير مسبوق في التاريخ الأميركي ورئاساته، حال فوزها، لتكون أول امرأة تصل إلى رئاسة البيت الأبيض، وهو ما فشلت فيه سابقتها، وداعمتها الديمقراطية (هيلاري كلينتون) أمام المرشح نفسه (ترامب) على الرغم من ميزات كثيرة تتفوق بها على المرشحة الحالية كونها زوجة رئيس حكم لدورتين، ثم تكليفها بحقيبة الخارجية في عهد الرئيس (أوباما)، بالإضافة إلى كونها من غير الملونين والذي ما زال له تأثير على غير قليل من الناخبين، ويومها حقق منافسها (ترامب) المفاجأة بفوزه مخيّبًا كل توقعات استطلاع الرأي التي كانت مؤشراتها في صالح كلينتون التي فازت بفارق التصويت العام برقم تجاوز مليوني صوت، لكن نظام الفوز باحتساب أصوات المجمع الانتخابي لكل ولاية، وهو المعتمد للنتيجة النهائية كان في صالح منافسها، وعزت التحليلات فوز ترامب إلى ناحيتين أساسيتين هما تركيز حملته على الولايات المتأرجحة، وعزوف قاعدته الشعبوية عن الاهتمام بأساليب الإعلام ومراكز سبر الرأي، وهو ما يعول عليه ترامب حاليًّا على الرغم من التقدم الرقمي لمنافسته في استطلاعات الرأي حتى الآن.
السياسة الأميركية الخارجية فبعيدة كل البعد عن اهتمامات الناخب الأميركي، وتأثيرها بحسب مراكز البحث ما زال أقل من طفيف في توجهاته، بل لا يكاد ذلك الأثر يُلحظ إلا في أوساط نخبة النخبة.
استطلاعات الرأي ونسبها تدخل أيضًا لعبة الأرقام
فعلى الرغم من مصداقية تتسم بها بعض مؤسساتها، غير تلك التي تتعمد التضليل والتلاعب، فإن تعقيدات النظام الانتخابي الأميركي واعتماده أصوات المجمع الانتخابي بحسب كل ولاية، يجعل تلك الاستطلاعات غير دقيقة، وكثيرًا ما جاءت النتائج معاكسة كما حدث في دورتي الرئاسة الماضيتين، ففي الدورة السابقة قبل أربع سنوات كانت مؤشراتها الرقمية في صالح ترامب لكن الفوز كان لبايدن، وعزي السبب لاعتماد نظام التصويت البريدي بسبب جائحة كورونا حيث غير قليل من مؤيدي ترامب من قاع اجتماعي لا يحبذ تلك الوسائل ولا يتعامل بها، ليتكرر لمرتين على التوالي فشل استطلاعات الرأي التي باتت مؤسساته الكبرى وذات المصداقية تضع هامش خطأ بثلاث نقاط مئوية، فيما أرقامها الحالية تشير إلى انحسار الفارق لمصلحة هاريس إلى أقل من نقطتين، مع الإشارة إلى أن الفيصل سيكون في الولايات القليلة المتأرجحة وهو ما يجعل هذه الانتخابات صعبة التوقع، وربما تشير إلى حدوث اضطرابات ما لم يكن الحسم واضحًا، غير بعيد ما حدث مثلها في أعقاب الانتخابات السابقة التي رفض ترامب وقاعدته الإقرار بخسارتها.
السياسة عند الناخب الأميركي
كثيرًا ما يُتَّهم المواطن الأميركي بأنه من أبعد مواطني الدول اهتمامًا أو تأثرًا بما يدور خارج حدوده، بل يتهم حتى من له بعض اهتمامات بأنه منساق خلف ما تقدمه المكنة الإعلامية الضخمة من مفاهيم، بعضها مقلوب ومخادع، لما يدور في العالم من أحداث، من غير أن يكون له اهتمام بالبحث عن حقائق هي في الأساس خارج دائرة مصالحه الداخلية والشخصية، لتكون الغلبة لجذبه لبرامج أحد الحزبين في وعود معيشية تتعلق بالحياة الداخلية واليومية كالضرائب والتأمين والضمان الصحي والاجتماعي، وتعديلات بعض القوانين، التي لا ينظر إليها على أنها سياسات حقيقية، حتى على الصعيد الداخلي، بقدر ما هي برامج ذات فوارق طفيفة في الاستجابة لما هو (إداري محلي) من غير أن يكتسب عمقًا سياسيًّا حقيقيًّا.
أما السياسة الأميركية الخارجية فبعيدة كل البعد عن اهتمامات الناخب الأميركي، وتأثيرها بحسب مراكز البحث ما زال أقل من طفيف في توجهاته، بل لا يكاد ذلك الأثر يُلحظ إلا في أوساط نخبة النخبة وقليل من أساتذة العلوم السياسية والإنسانية، أما على صعيد السياسيين فغالبهم يدرك ذرائعيتها والتي في جوهرها تقوم على (إذكاء الخلافات البينية بين الدول، وتأجيجها، ومن ثم إدارة صراعها وأزماتها) كما يقول في مذكراته أشهر مهندسيها عبر التاريخ الأميركي (هنري كيسنجر). ذلك الجوهر الذي تمكّنه القوة الأميركية المتفوقة عالميًّا، والقادرة على اللعب بكل خيوطه وحبائله، ظاهرًا وباطنًا وتكتيكًا، غير بعيد أيضًا عن إخضاع السياسي والاستراتيجي لسباق الأرقام وتغوّل رأس المال بعيدًا عن كل ما يُرفع من شعارات الحرية والديمقراطية والـ(إنسانية).