لم تكن قضية الاعتقال السياسي ظاهرة طارئة على حياة السوريين في الطور الأسدي من عمر الدولة السورية، بل يمكن التأكيد على أن اعتقال المواطنين لأسباب سياسية كان سلوكاً سلطوياً ملازماً للنهج القائم على الإقصاء واغتصاب الحقوق والتوحّش الذي تمارسه السلطة على المجتمع بغية الحفاظ على استمراريتها وإحكام قبضتها إحكاماً مطلقاً على مفاصل الدولة والتحكّم بسيرورة حياة الناس.
وفضلاً عن النهج الدموي لنظام الحكم، فإن ثمة منظومة تشريعية قد أوجدها الحاكم لا يتيح له غطاءً قانونياً لاعتقال المواطن فحسب، بل يشرْعن جميع ممارسات العنف الذي يصل إلى درجة الإبادة، ونعني بذلك وجود قانون الطوارئ والحصانة القانونية لرجال المخابرات والمحاكم الميدانية والاستثنائية واستصدار قوانين تجرّم العمل السياسي واختزال السياسة بالحزب الحاكم والسيطرة الأمنية على عمل النقابات ومنظمات المجتمع المدني وسوى ذلك الكثير.
وعلى الرغم من استفحال ظاهرة الاعتقال التي تحوّلت إلى كارثة يعاني السوريون من تداعياتها المرعبة طيلة عقود من الزمن، إلّا أن السلطة الحاكمة كانت على الدوام تنفي بشدّة وجود ظاهرة الاعتقال بالمعنى الحقوقي، فالأسد – الأب – دأب على النفي القاطع لوجود معتقلين في السجون السورية، مع أن عدد المعتقلين في سوريا بلغ عشرات الآلاف في أعقاب أحداث الثمانينيات من القرن الماضي، ولعل المرة الأولى التي خرجت فيها قضية المعتقلين إلى العلن كانت في شهر كانون الأول من العام 1991، حين أفرج حافظ الأسد عما يقارب (2800) معتقل، كان معظمهم قد أمضى في السجن أكثر من عشر سنوات، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطوة من جانب السلطة كانت مدفوعة باستحقاقات واجهها الأسد الأب على أعقاب حرب الخليج الثانية، وفي محاولة من السلطة للالتفاف على استمرار الضغوطات الدولية آنذاك، أقدم على خطوة تالية تجسّدت بإحالة (600) من المعتقلين إلى محكمة أمن الدولة الاستثنائية في شهر آذار من العام 1992، حيث حوكموا محاكمة صورية ونال معظمهم أحكاماً تتراوح بين (10 – 15 سنة).
كيف للسوريين أن يكتشفوا جرائم مماثلة لدى سلطات الأمر الواقع المتنابذة مع سلطة الأسد إيديولوجياً ولكنها المتماهية معها نهجاً وسلوكاً؟
ما هو لافت أن ظاهرة الاعتقال فيما بعد 2011 استمرّت قائمة على المقوّمات ذاتها التي شرعنتها السلطة، ثم ما لبثت أن استبدلت منها بما هو أسوأ، كإلغاء الأحكام العرفية واستحداث قوانين الإرهاب، مع الحفاظ الكامل على جميع الطقوس الأمنية التي سنّتها سلطة الأسد – الأب – من جهة استمرار التعذيب في السجون والتكتّم على حياة المعتقلين داخل السجون، بل والقيام بتصفيات جسدية جماعية وحرق الجثث والكثير من الممارسات التي باتت موثّقة لدى أكثر من جهة دولية وإنسانية.
ولئن كانت وثائق قيصر قد استطاعت كشف المزيد من فظائع الشناعة الأسدية التي ما يزال نظام دمشق مستمرّاً بإنكارها، فكيف للسوريين أن يكتشفوا جرائم مماثلة لدى سلطات الأمر الواقع المتنابذة مع سلطة الأسد إيديولوجياً ولكنها المتماهية معها نهجاً وسلوكاً؟ هل نحتاج إلى قيصر ينشق عن كل سلطة ليفضح ما في مخابئها من موبقات؟
من حقه (كسجين) رؤية زوجته وأطفاله والحصول على الدواء وفقاً لما أقرته الحقوق والنواظم القانونية والإنسانية للسجناء
قد لا يكون المحامي (ماجد جمعة) هو الوحيد الذي تعتقله سلطات قسد منذ شهر تشرين الأول عام 2019 دون أن يعرف أحدٌ أي معلومة سواءٌ عن المكان الذي أُخفيَ فيه أو سبب اعتقاله، وعلى الرغم من جميع المساعي من جانب عائلته ومحبيه من خلال التماس أي جواب من السلطة القائمة في مدينة منبج حول ملابسات اعتقاله، إلّا أن الأجوبة القائمة لا تتعدّى الإنكار حيناً، والتسويف والكذب والتضليل حيناً آخر، علماً أن ماجد جمعة هو محام من مدينة منبج مواليد 1961، أمضى أحد عشر عاماً من عمره في المنفى مُطَارداً من نظام الأسد (1981 – 1992)، وفي انطلاقة ثورة آذار 2011 كان أحد المساهمين في الحراك الشعبي، كما كان عضواً في المجلس المحلي للمدينة، إضافة إلى نشاطه الحقوقي والإنساني في مجال الحريات وحقوق الإنسان، وفي شتاء عام 2014 اعتقله تنظيم داعش بعد احتلاله لمدينة منبج بتهمة الكفر تارةً والمشاركة في الحراك المناهض للدولة الإسلامية المزعومة حيناً آخر، وبعد أربعين يوماً استطاع ماجد جمعة الإفلات من قبضة داعش، واستمر مواظباً في نشاطه الحقوقي في توثيق الانتهاكات بحق المواطنين السوريين، إلى أن وقع أسيراً مرة أخرى في قبضة سلطات قسد التي لم تراع تردّي حالته الصحّية نتيجة مرضه المزمن في القلب.
ثمة ما يبعث على القول: كان بإمكان سلطات قسد أن تُفصح عن أسباب ومكان اعتقاله، وإن كان قد ارتكب مخالفةً لقوانينها أو تشريعاتها أو شكّل نشاطه أي تهديد لأمنها، فلها أن تحاكمه وفقاً للقوانين النافذة لديها، ولا أحد يستطيع منعها من ذلك، كما من حقه (كسجين) رؤية زوجته وأطفاله والحصول على الدواء وفقاً لما أقرته الحقوق والنواظم القانونية والإنسانية للسجناء، وخاصة أنه معتقل لدى سلطة تحاول التماهي مع الحداثة وترفع شعار الديمقراطية العابرة للقوميات وتتباهى بالدفاع عن حقوق المرأة وإشراكها في القيادة وصناعة القرار والإدارة، كما وتحاول من خلال خطابها الإعلامي إيهام العالم بأنها الكيان الأمثل المناهض للظلامية والإرهاب، كما أنها تحاول تعزيز القناعة لدى السوريين – ومن خلال عقدها الاجتماعي الذي أصدرته مؤخراً – بأن النموذج القسدي هو المؤهل ليكون النموذج المُحتذى في باقي البلاد السورية. أمّا إصرارها على إخفاء المواطنين بعد اعتقالهم بطريقة هي أقرب إلى الاختطاف، والاستمرار بإنكار الاعتقال حيناً، والتسويف والتضليل حيناً آخر، فهذا يعني أن سجن صحراء تدمر الذي ابتلعت رماله آلاف الأرواح من السوريين، وكذلك سجن صيدنايا في عهد الأسد الابن، وجميع أقبية التحقيق وزنازين الأفرع الأمنية باتت إرثاً مشتركاً ضامناً ليس لاستمرار سلطة الأسد فحسب، بل لسلطات أخرى ولكن بنكهة وتنويعات ديمقراطية.