في مشاهد المسلسلات البوليسية، تتكرّر دومًا تلك العبارة الشهيرة، على لسان المحقّق، وهو يُسائل الشهود: "لا تغفل ذكر أي تفصيل مهما كان صغيرًا، فأيّ تفصيلٍ قد يفيدنا في حلّ القضية".
و"أيّ تفصيل" قد يعني في هذه الحال عقبَ سيجارة مرمي على الأرض، أو بقعةً مريبة على السجادة، أو خدشًا جديدًا على سيارة المشتبه به، أو غير ذلك.
أما في قضية "اقتحام" بيت الفنانة نانسي عجرم، فإنّ التّفصيل الوحيد الذي كان ذكره كافيا، هو كون "المقتحم" سوري الجنسية.
تفصيل غاية في الأهمية اختزل كل القضية، وأغنى عن كلّ ما يمكن أن يتمّ اللّجوء له لو كان "المقتحم" غير سوري لا قدر الله، كرفع البصمات، والتّحقق من سلاح الجريمة، وانتظار تقرير الطبيب الشرعي، والبحث وراء ملابسات القضية وغير ذلك! وما حاجة بعض وسائل الإعلام اللبناني إلى انتظار كل ذلك ما دام "المقتحم" سوريًّا؟!
دكاكين إعلامية و"سوريون أشرار"
وفي كلّ مرة، يستمع فيها المرء لبعض نشرات الأخبار اللبنانيّة، لمتابعة مجريات الحادثة، كان يبدو أنّ قراء التقارير المصورة، أو حتّى المذيعين، ذوي الوجوه المتجهمة كوجوه قضاة، يقومون بالكزّ على أسنانهم عندما يصلون لعبارة "سوريّ الجنسية"، وهم يذيعون الخبر بتلذّذ. لقد غدت هذه العبارة كثيرة التداول، تظهر في النشرات، وفي شريط الأخبار، ولا تستخدم للمصادفة العجيبة، إلا عند ذكر حوادث سلبيّة قام بها "سوريون أشرار".
وفي بلد صغير مثل لبنان، استطاع إثبات نفسه عالميا، باحتلال المركز الثاني على مستوى العالم في العنصريّة عام 2016، وفق موقع انسايدر مونكي، وتم تتويجه في المركز الأول عربيًّا، يغدو تعامل بعض وسائل الإعلام اللبناني مع قضية "الاقتحام" بتلك الطريقة أمرًا متوقّعًا، خاصّة وأن بعض دكاكين الإعلام اللبنانية هذه، التي يملكها صبيان السياسية، ويديرها صبيان الإعلام، كانت تنتظر بفارغ الصبر أيّ خبر مثير، يشغل الرأي العام، ويؤخر المخاض الثوريّ الذي تمر به البلاد، والذي سيسفر عن وجه لبنان الحقيقي، وجهٍ يذكّر برحابنةِ الزّمن الجميل، وأدباء الحنين إلى الوطن الحرّ، من إيليّا أبو ماضي، إلى جبران خليل جبران، وإلياس فرحات، وميخائيل نعيمة، والأحرار الذين استشهدوا لأجل موقف وكلمةٍ حرّة، كأمثال المفتي حسن خالد، وجهٍ لم يعُد في هذه الأيّام مألوفًا.
تسارعات مختلفة:
إن مشكلتنا الكبرى لا تكمن إلّا في التّسارعات المختلفة لتطوّرنا، فبينما شهد العالم في
ذكر "جنسية" المعتدي أو المتّهم أو حتى الضحية، سواء في التقارير التلفزيونية، أو في المواد الصحفيّة، التي تنتشر في وسائل التواصل كالنار في الهشيم، هي مسألة أخلاقية بالغةُ الأهميّة
الأربعين عاما الفائتة، تطوّرًا تكنولوجيًّا ومعلوماتيًّا رهيبًا، أكثر مما شهده في تاريخه كله، فإنّنا لا نزال على الصّعيد الأخلاقيّ بطيئين كالحلزون، بل نسير أحيانًا القهقرى.
لذا فإنّ كلّ أشكال تطوّرنا هذه، باتت تفتقد لتطوّر أخلاقيٍّ موازٍ ولازمٍ، لضبط معضلاته الأخلاقية، بل أحيانا بديهياته أيضًا.
وإنّ ذكر "جنسية" المعتدي أو المتّهم أو حتى الضحية، سواء في التقارير التلفزيونية، أو في المواد الصحفيّة، التي تنتشر في وسائل التواصل كالنار في الهشيم، هي مسألة أخلاقية بالغةُ الأهميّة، خاصّة في المجتمعات التي تشهد حالة من التّوترات العنصرية، ولكنّ كثيرًا من المؤسسات الإعلامية العربية، لم تصل بعد إلى النضج الإعلامي والسياسي والأخلاقي الكافي لمناقشتها؛ هذا إن أحسنّا الظّنّ، ولربما يكون الأمر عند بعض وسائل الإعلام منهجيّةً عنصريّة عن سبق إصرارٍ وترصّد، وهنا تكون الكارثة أكبر، والطّامّة الأخلاقيّة أعمق.
إن هذه المسألة باتت تُناقش بالفعل، ضمن أخلاقيّات مهنة الصحافة، ومواثيق الشرف الإعلامية في بعض الدول، لمحاولة صياغة ضوابط، تمنع وسائل الإعلام من التصرف بشكلٍ طائشٍ، في قضايا من هذا النوع، ومن إثارة الرأي العام بشكل يؤجّج العنصرية، ناهيك عن كونها عامل ردع لبعض المؤسسات الإعلامية، ذات الأجندات اليمينيّة، والتي يكون استخدامها لذكر جنسية المتهم أو المدان، أمرًا تفعله عن وعي كامل بتبعاته.
هل مرت مواثيق الشرف هذه من هنا؟
وفي القضايا الجنائية، التي لا يزال التحقيق فيها مفتوحًا، فإنَّ نشر أية معلومة متعلّقة بالتحقيق، كصورة المتهم، أو اسمه، أو صورة جثته، أو أي معلومات تؤثّر على سير هذا التحقيق، وتشهّر بالمتّهم قبل حسم القضية، تعدُّ أمورًا تخل بالشرف الإعلامي للمؤسسة الإعلامية.
بل إن المؤسسات الإعلامية الرصينة، تمتنع حتى عن نشر صور المجرمين المدانين أو أسمائهم، إلّا في حالات خاصة، وذلك حرصًا على منح المدان فرصةً لحياة أفضل، وحمايته وحماية أسرته من أيّة عمليات انتقامية، أو نبذٍ مجتمعيّ لأسرةٍ لا ذنب لها في جريمة ابنها.
ولكن مواثيق شرفٍ كهذه، أو نقاشات أخلاقية من هذا النوع، لم تعرفها بالتأكيد أروقة بعض المؤسسات الإعلامية اللبنانية، فهي لم تكتفِ بنشرِ كلّ ما يمكن نشره، دون مراعاةٍ لأيّة حرمة أخلاقيّة أو قانونية، وتذييل كلّ ذلك باستنتاجاتٍ وأحكامٍ تستبق القضاء وتشوش عليه، بل قامت أيضٍا بتعريضِ لا عائلة المتهم فقط، بل جالية كاملة من مئات الآلاف من السوريين، لخطر عمليات انتقامية، في هذا الجو المشحون بالعنصرية والكراهية.
وهذا أمر سبق أن شهده السوريون مثلًا في تركيا، بعد كل خبر يتناول حادثة ما، يُشتبه في تورط سوريين فيها، حيث تشهد الشوارع التركية عندها أعمالا تخريبية، تستهدف المحال السورية، وتُعرض الأبرياء لهمجية أولاد الشوارع.
التجربة الألمانية:
إن هذه الفوضى، وهذه الكراهية العمياء، هي التي تحذر منها أصوات حكوميّة وإعلاميّة في ألمانيا مثلًا، عند ذكر الأخبار المتعلقة بقضايا تورط فيها أجانب، أو ألمان من أصول أجنبية، حيث تكون القاعدة في المؤسسات الصحفية، هي تجنب ذكر جنسية المتهم، إلّا لو كان
يُتهم وضع جنسية المعتدي، في أي واقعة، في العناوين العريضة، بأنّه سلوكٌ صحفي عنصريّ، ومحرض على الكراهية، ومرسّخ للصور النمطية السلبيّة للأجانب
ذلك مهمًّا لفهم القضية، وذلك وفقا لميثاق شرف تم صياغته بعد واقعة التحرّش الجماعيّ الشهيرة في رأس السنة عام 2016 في كولونيا، والتي أدى ذكر جنسية المعتدين في أخبارها، إلى تعزيز رأي عام كاره للأجانب.
لذلك بات يُتهم وضع جنسية المعتدي، في أي واقعة، في العناوين العريضة، بأنّه سلوكٌ صحفي عنصريّ، ومحرض على الكراهية، ومرسّخ للصور النمطية السلبيّة للأجانب.
أما ذكر جنسية المعتدي في متن الخبر، فهو متروكٌ لتقدير المؤسسة الإعلامية نفسها، على أن يكون استثناءً له مبرّره الواضح.
إن نقاشًا مشابهًا، على ذات القدر العالي من المسؤولية والنّضج، والحسّ الأخلاقي والإنساني، لا يمكن تخيّل خوضه في المؤسسات الإعلامية اللبنانية، التي أسّس معظمها أصلًا على أيدٍ حزبية طائفية، مغرقة في النّرجسية وروح الانقسام.
إنّ إعلامًا مثل بعض وسائل الإعلام اللبناني، الذي يستخدم الصّور النمطية مادةً لبرامجه الكوميدية، ويحتفي بفنانة "عملاقة" كهيفاء وهبة، التي صعّدت الكراهية بتغريدتها الطائشة، التي طالبت فيها بترحيل السوريّين، مجاملةً لزميلةِ الفنّ نانسي، لن يكون غريبا عليه أن يكون التفصيل الأكثر أهمية بالنسبة له، في قضة "اقتحام" منزل نانسي عجرم، هو كون "المقتحم" سوري الجنسية، فتفصيل كهذا سيكون عاملًا مهمًّا في تسويق الخبر، وتسويق الكراهية، وتسويق السّياسات المعادية للاجئين، بل سيكون مستغربًا جدًّا جدًّا، لو أبدى هذا الإعلام مستوىً أعلى من الوعي والاحترام والمسؤولية والإنسانيّة!